الوقاية من الأمراض السياسية

TT

السبق الصحافي أو الإكسيكلوسيف في لغة الجرنالجية الدارجة، أمر يتكرر في بلاط صاحبة الجلالة؛ مثلما أسمى المرحوم مصطفي بك أمين (1914- 1997) شارع الصحافة.

هناك سبقات صحافية غيرت الرأي العام؛ وحملات صحافية وضعت نهاية سعيدة لحكاية حزينة بسبب ضغطها العلني على زعماء نظم الحكم المطلق.

وكان مصطفى بيه (مثلما لقبته أجيال الصحافة المصرية في القرن العشرين) من مدرسة صنع الخبر عندما تحدد الديكتاتوريات تحرك الصحافة في أروقة السياسة.

كبدء أخبار اليوم حملة لإطلاق سيدة مصرية اعتقلت في الأردن وقت اقتصرت أخبار كل وسائل الإعلام في المحروسة على «الزعيم الخالد» فقط لا غير؛ وكان عسكر يوليو أمسكوا الصحافة من رقبتها وعصبوا عينيها. وجه مصطفى بك مراسليه ليسألوا المغفور له الملك حسين في مؤتمر صحافي أن يعفو عن المعتقلة؛ فموافقة الملك أو رفضه الطلب علنا، سيكون الخبر الرئيسي في أخبار اليوم، وتلهث بقية الصحف وراءه.

الواشنطن بوست في السبعينات، كشفت بتحقيق ووترغيت، كذب ريتشارد نيكسون (1913ـ 1994)، وطوت فصلا من التاريخ باستقالته، وانتقمت للشعب بالتزامها بتقاليد المهنة لتثبت أن السلطة الرابعة هي عين الأمة الساهرة ـ دون أن تذكر الصحيفة ذلك في افتتاحياتها.

وأحيانا ما تجبر حملات صحافية السلطة التشريعية على إدراج اقتراح برلماني يتحول لقانون، وأتحدث هنا عن النظم الديمقراطية، حيث تضمن حرية السوق التجارية حرية الصحافة، إلى جانب سلطة القانون فوق الجميع؛ كحملة صحيفة الصن البريطانية التي أدت لتعديل قانون رعاية الأحداث وحمايتهم.

لكن لا أذكر طوال أربعة عقود من حياتي المهنية سبقا صحافيا أجبرت فيه السلطة الرابعة، السلطتين التشريعية والتنفيذية على تغيير تقاليد دستورية برلمانية، وهز كيان المؤسسة الحاكمة بكل فروعها، مثلما فعلت الديلي تلغراف العريقة الأسبوع الماضي. الصحيفة التي كانت قد انطلقت في بداية القرن الـ 19 كصوت الضباط المظلومين من أبناء الطبقة الوسطى ضد تسلط الارستقراطية ممثلة في دوق كمبردج، رئيس أركان جيوش الإمبراطورية وقتها؛ سيسجل لها التاريخ أنه في 7 مايو (أيار) 2009، فجرت قنبلة صحافية في خبر، كسر قاعدة أن حياة القصة الخبرية السياسية لا تزيد على ستة أيام، لأن مسلسل الخبر نفسه لا يزال ينشر في اليوم الثامن ساعة كتابة هذه السطور.

قنبلة الديلي تلغراف هزت أم البرلمانات وأرعبت الأحزاب، حكومة ومعارضة «وبين البينين»، وأجبرت لجان النظام والتنسيق والقانون البرلمانية على إدراج مشاريع لتغيير اللوائح المالية الداخلية للبرلمان دون أن تأخذ موقفا أو تبدي رأيا تنحاز لتيار أو تتبنى أيديولوجية، فقط بالحيادية التامة والتوازن والالتزام بالحقائق والوقائع والأدلة فقط.

بتطبيق حرفي لأصول المهنة وفق كتب المدرسة الصحافية القديمة التي تعلمتها شابا في صالة الأخبار وفوق الأرضية الحجرية الباردة لمطبعة التلغراف قبل أكثر من 44 عاما.

التلغراف نجحت في الحصول على نسخة الملفات الكمبيوترية التي تضم صور ملايين إيصالات وفواتير تقاضي نواب مجلس العموم ـ ورفضت طبعا الإفصاح عن المصدر حسب التقاليد الصحافية ـ قبل موعد نشرها الذي حدده مكتب النظام والمالية في يوليو القادم. وكان النواب صوتوا برفض نشرها، فكسب عدد من الصحافيين حكما قضائيا بنشرها وفق قانون حرية المعلومات.

ولن أكرر على القارئ التفاصيل التي طالعها في صفحات أخبار الشرق الأوسط، الأخبار عن مبالغات النواب في المصاريف التي تقاضوها بشكل جعل نشرها فضيحة لأن كثيرا منها كان كماليات باهظة الثمن تحملها دافعو الضرائب. لكن أنبه القارئ إلى أن أيا من النواب لم يخرق قانونا أو يخالف اللوائح، وإنما التزم بشكل اللوائح دون روح القانون نفسه.

فتقليد حصول النائب على مصاريف إضافية بجانب مرتبه، يعود لبضعة عقود فقط ؛ فالنواب من خارج لندن يضطرون للانتقال بين مسكنين، مسكنه في دائرته الانتخابية، حيث يتواجد من مساء الجمعة لصباح الاثنين للقاء الناخبين وتلقي شكاواهم، وآخر في لندن لحضور جلسات البرلمان من ظهر الاثنين حتى مساء الخميس.

ولأن مرتبات النواب متساوية، فمن العدل أن تتحمل الخزانة العامة مصاريف سكن النائب الريفي في لندن، وهو ما استغله عديد منهم عدم وجود تعريف محدد لما هو معقول أو لازم لممارسة النائب عمله في لندن التي تبعد عشرات وأحيانا المئات عن دائرته.

وحتى عشرينات القرن الماضي لم يتلق النواب أي مرتبات من الدولة ونادرا ما طالبوا بالمصاريف، متفاخرين بأن تمثيل الشعب في مجلس العموم هو خدمة للوطن. لكن ذلك جعل العمل السياسي حكرا على الأثرياء وذوي الأملاك الواسعة؛ فلم يكن لأي من أبناء الطبقة العاملة مصدر آخر للدخل تجعله يتفرغ للعمل السياسي.

وعندما انبثق حزب العمال عن الجمعية الفابية الاشتراكية، بدأت اتحادات مهن الطبقات العاملة تمول حزب العمال ونوابه. وطبعا أدى هذا لتوجيه الممول لنشاط الحزب، والاستقطاب الطبقي بدوره حول العمل السياسي لصراع طبقي، بالقانون وصناديق الاقتراع طبعا وليس بالدماء كما تحدد النظرية الماركسية (وكان كارل ماركس 1818-1883 كتب نظريته في لندن من متابعته للحياة السياسية فيها). ولذا فإن منح النواب مرتبا معقولا (في حدود 100 ألف دولار سنويا) يجعلهم يتفرغون للعمل السياسي ويحررهم أفرادا وأحزابا ـ نظريا ـ من سيطرة قوى وتيارات خارج البرلمان، ويقلل من تحول العمل البرلماني لبعد من أبعاد الصراع الطبقي.

التلغراف لأكثر من مائة عام تدعم حزب المحافظين (في صفحات الرأي والافتتاحيات فقط بينما تلتزم الحياد في صفحة الأخبار)؛ لكنها لم تستثن المحافظين من نشر تفاصيل الفواتير والإيصالات، بل كانت أكثر قسوة على زعماء المحافظين منها على رئيس الوزراء وحزب العمال الحاكم، وبقية الأحزاب الأخرى؛ فالصحافي بغريزته المهنية منحاز للقارئ وللخبر المثير قبل انحيازه العاطفي أو الأيديولوجي لتيار سياسي.

زعيم المعارضة المحافظ دافيد كاميرون ألقى على وزراء حكومة الظل ثم جميع النواب المحافظين محاضرة أخلاقية، ثم أمرهم بتحرير شيكات فورية لخزينة البرلمان بأية مصاريف تلقوها مقابل أثاث منزلهم في لندن أو مصاريف هناك شك في عدم تعلقها بالأداء البرلماني.

ولأن خيارات الحكومة محدودة أمام الرأي العام في وجود البديل الجاهز في حكومة الظل المحافظة اضطر رئيس الوزراء جوردون براون لإجبار وزرائه على تحرير شيكات بمصاريفهم المبالغ فيها للخزانة؛ وبدأت مناقشات برلمانية لإعادة كتابة اللوائح وتحدد نظام المصاريف الإضافية.

فسلسلة مقالات التلغراف صنعت التاريخ وذكرت الأمة بأن السلطة الرابعة ستبقى خط الدفاع الثابت عن الديموقراطية وتمنحها المصل الواقي من مرض الفساد.