حكاية «الحاج بنيديكتوس» والشاهديْن العدليْن

TT

لا يلام قاضي قضاة فلسطين الشيخ تيسير التميمي بسبب اغتنامه فرصة مشاركته في لقاء حواري بين رجال دين مسيحيين ويهود في اليوم الأول (الاثنين 11 ـ 5 ـ 2009) لزيارة البابا بنيديكتوس السادس عشر إلى القدس المحتلة من إسرائيل منذ العام 1967، وإلقاء كملة استغرقت ست دقائق مستوحاة من مضمون «المبادرة العربية» المتعثرة، طلب فيها من رئيس الكنيسة الكاثوليكية «باسم الله الواحد إدانة الجرائم الإسرائيلية والضغط على حكومة إسرائيل لتوقِف اعتداءها على الشعب الفلسطيني وإعلان القدس عاصمة أبدية وسياسية ووطنية وروحية لفلسطين» مضيفا القول «إن إسرائيل انتهكت حرمة القدس وحوَّلتها إلى سجن ومِن واجب المسيحيين والمسلمين العمل معا ضد الاحتلال الإسرائيلي والكفاح معا من أجل التحرير والاستقلال وتأسيس دولة فلسطينية مستقلة».

كان اللقاء عبارة عن «منتدى للحوار» حضرَتْه بعض الشخصيات والفاعليات. ومن منطلق الإحساس بالظلم الدولي والشكوى المرة من ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، ما الذي يمكن أن يقوله قاضي قضاة فلسطين في مثل هكذا مناسبة غير الذي قاله. هل يكتفي بالحديث عن أهمية الحوار وإطراء الضيف الزائر، أم يقول كلمة الحق التي يراد بها الحق ولا شيء غيره وهذا ما فعله. المؤسف أن بطريرك الطائفة اللاتينية في القدس فؤاد طوَّال بدل أن يضيف كلاما مماثلا في روحيته لكلام الشيخ التميمي فإنه حاول مقاطعة التميمي، الأمر الذي شجع بعض الحاضرين على مغادرة القاعة، كما أن بعض الحاخامات اعتبروها ذريعة جاءت من غير الإسرائيليين لكي يقاطعوا منتدى الحوار.

أما الأكثر مدعاة للأسف فهو أن البابا بنيديكتوس التزم الصمت محتجا على كلمة الشيخ التميمي، مع أن الرجل نطق حقا وفي صيغة الشاكي والمتظلم. وكان يمكن أن يقتصر الأمر عند هذا الحد لولا أن الفاتيكان بعلْم البابا بنيديكتوس أو من دون عِلْمه أصدر بيان إدانة لتصرّف الشيخ التميمي وتحت حيثية «إن المداخلة – أي كلمة قاضي قضاة فلسطين – كانت إنكارا مباشرا لما يجب أن يكون عليه الحوار».

أي حوار هذا الذي أنكره الشيخ التميمي؟ وأي منطق هذا الذي يجيز الحوار الذي لا يحقق أي مردود ويُبقي الحالة المأساوية على نحو تلخيص الدكتورة حنان عشراوي لها بقولها: «لا ننسى أن الكرامة والعدل دِيسا في قطاع غزة، حيث إن مليونا ونصف المليون مجبَرون على العيش في عزلة عن العالم في سجن كبير، كما أن العدالة والكرامة لا يمكن لهما أن ينموا في ظل الجدار الذي أقامتْه إسرائيل في الضفة الغربية، لذلك فعلى البابا أن لا يُغلق عينيه أمام هذه المأساة فهناك شعب تُهدر حقوقه وتُداس وهو الشعب الفلسطيني وهذه حقيقة تاريخية لا يمكن تعتيمها». والدكتورة عشراوي ليست كما الشيخ التميمي من «حركة حماس» لكي ينسجم الاحتجاج البابوي مع الاحتجاج الدولي والرفض الإسرائيلي للإقرار بأن الحركة ذات حضور شعبي فاعل في المجتمع الفلسطيني، وإنما هي سيدة فاضلة فلسطينية عربية مستقلة ومسيحية مستقيمة الرأي، فضلا عن أنها عضو في البرلمان الفلسطيني، وسبق أن شغلت منصبا وزاريا، وتجمعها إلى جانب هذه الصفات بالشيخ التميمي المعاناة الناشئة عن الظلم الدولي في حق فلسطين وطنا وشعبا. وعلى هذا الأساس فإن كلمة الشيخ التميمي وكلام الدكتورة حنان عشراوي الذي أوردْنا خلاصته يشكِّلان، إذا جاز القول، شهادة شاهديْن عدْلين من أهل القضية المستباحة، أو من باب الدقة إن كلمة الشيخ المسلم وكلام الدكتورة المسيحية يشكلان خلاصة الرأي الفلسطيني في ما هو مطلوب من رئيس الكنيسة الكاثوليكية التأمل فيه، وبذلك تحدُث إعادة النظر في المفهوم السائد في العقل المسيحي، وهو أن تسليم أمر القدس إلى الإسلام في شخص الحاكم الفلسطيني المسلم بطبيعة الحال يعني وضْع المقدسات المسيحية في القبضة الإسلامية، وهذه مخاطرة كبرى، وأن الأفضل وحتى إشعار آخر الإبقاء على الوضع كما هو عليه، أي لا حل للصراع العربي – الفلسطيني ولا تسوية للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي إلى أن يستسلم العرب والمسلمون عموما إلى أن القدس إذا كانت لن تكون موحَّدة وعاصمة لدولة إسرائيل فإنها لن تكون عاصمة للدولة الفلسطينية المأمولة على افتراض أنها ستقام.

وهذا التوجه يفسر لنا حملات التشويه المتواصلة للإسلام وتصويره للرأي العام المسيحي على أنه الإرهاب الذي يهدد استقرار العالم. بل إن هذا التوجه يجعلنا نميل إلى التأكيد بأن وراء كل العمليات الإرهابية التي يقوم بها مسلمون، بدءا بـ 11 سبتمبر وصولا إلى ما جرى ولا يزال في أكثر من بلد عربي وإسلامي، عقولا صهيونية ذات هدف واضح وهو: كيف ترضى أيها المسيحي أن يكون مهد المسيح تحت رحمة المسلم الذي يستعذب العمليات الانتحارية ويستعمل الطائرات المدنية في تفجير رمز التجارة العالمية في نيويورك ويضع العبوات الناسفة في قطارات الأنفاق وفي المخازن التجارية الكبرى تقتل الأطفال والنساء. ولأن آلة الإعلام المكتوب والمرئي والمذاع مُلك اليد اليهودية بنسبة كبيرة وبعضها في عهدة المتصهينين، فإن المكيدة تحقق الغرض. ولكن ما يقتنع به المسيحي العادي في أكثر دول العالم من القطب إلى القطب هل من الطبيعي أن يأخذه في الاعتبار رئيس الكنيسة الكاثوليكية الذي عندما جاء يحج بين الأردن وفلسطين المحتلة والمعتدى عليها افترضْنا أنه سيحسم الأمر ولمصلحة الموقف العادل، لا أن يكون كما كل حكام دول العالم المسيحي يبيعون الأمتين الأوهام، مطمئنين إلى أن التفكك المستشري في أوصال أهل القرار العربي والإسلامي يجعل بعض هؤلاء يعتبرون الأوهام وعودا قابلة للتنفيذ، ثم يتبين بعد انصراف هذا الواعد أو ذاك أن الوعود أكاذيب، وأن أهل القرار في الدول الكبرى أصحاب تجارة تنطبق عليها صفة الذي يبيع السمك وهو في البحر.

عسى ولعل بعدما دخل «الحاج بنيديكتوس» يوم الثلاثاء 12 ـ 5 ـ 2009 حافيا مسجد قبة الصخرة في باحة المسجد الأقصى أُولى القبلتيْن وثالث الحرمين الشريفين وكان بذلك أول بابا فاتيكان يدخل المسجد الواقع في القدس الشرقية.. عسى ولعل بعد الآن يرفق حديثه عن معاناة الشعب الفلسطيني بحديثه في القدَّاس الذي أقامه مساء اليوم نفسه في وادي الجوز الواقع بين جبل الزيتون وأسوار البلدة القديمة في القدس المحتلة وركَّز فيه قبل أن يصلي في مكان العشاء الأخير للسيد المسيح على الصعوبات والإحباط والألم والمعاناة التي يواجهها المسيحيون في الأرض المقدسة، وكأنما بقية شعب فلسطين من المسلمين في أحسن حال. بذلك يكون حجَّ وأنصف ودشن درْب العدالة أمام قادة دول العالم المسيحي.. الذين هم مع الباطل الصهيوني متورطون وعن العدل الفلسطيني ساهون.