زوال العصور الجميلة

TT

عندما اخترع رجل فرنسي قلم «بيك» العامل بالحبر الجاف، رسم بذلك نهاية عصر جميل من الحبر السائل. غابت ـ إلا للزينة ـ أقلام الحبر المزخرفة. ولم يعد جمال الخط إلزاميا. ولم يعد القلم ينتقل من الجد إلى الحفيد بل صار يرمى مثل سدات القناني. وعندما اكتشف البلاستيك غابت زجاجات الكولا الجميلة وغاب تصميمها التقليدي على شكل امرأة ذات خاصرة ضامرة. وعندما ارتفع سعر النيكل الأبيض اللماع اختفى من مقدمات السيارات ومؤخراتها واستبدل بالمطاط المقوس وأصبحت أسوار النيكل شيئا في المتاحف القديمة.

عندما بدأت الصحافة كان خط العناوين يكتب على القصب بالمقلوب لكي يظهر في الصحيفة مستقيما. ثم ظهرت «الأوفست» فأصبحت العناوين تكتب على الورق. ثم ظهر الكمبيوتر فاختفت مهنة الخطاطين ولم يعد للخطاط مكتب في آخر المكاتب. وبعد حين اختفت مهنة صف الأحرف ولم تعد الصحف بحاجة إلى طابق كامل لوضع الماكينات الضخمة والرجال الذين يتعرقون خلفها.

وقد بدأنا الآن في دخول عصر الصحف الالكترونية. وهذه ستخفي بائعي الحبر وموزعي الصحف وبائعي الورق. وتنافس الصحافة الآن مجموعة كتاب «البلوغرز»، الذين صارت تعتمدهم محطات التلفزيون الكبرى وحتى الصحف الكبرى أيضا. وما ينطبق على الصحافة ينطبق على الكتب وعلى الموسوعات ودوائر المعارف. لكن المهن تتوالد كالناس. وكلما اختفت مهنة وجد الإنسان لنفسه عملا في مهنة أخرى. وقد كان عدد العاملين في الصحافة العربية محدودا، لكن الآن يؤكد الكاتب الكبير عبد الرحمن الراشد أن عدد العاملين في صحافة الانترنت وعالمها يزيد على المليون شخص. لن تبقى لنا في المستقبل صحيفتنا المفضلة. تلك التي يضعها صبي الحي في صندوق البريد أو يرميها عند الباب. وسوف تختلف طريقة القراءة. وسوف تختلف طريقة الاستيعاب. ولن نكتب الرسائل والشكاوى إلى المحررين. ولن نطلب من فوزية سلامة أن تحل لنا قضايا القلوب. وسوف تزول علاقتنا الجميلة بالحبر والورق. وتلك الألفة الطويلة مع عالم الطباعة الذي غير شكل الكون لقرون طويلة قبل أن تطغى عليه الكلمة المذاعة ثم الكلمة المصورة والآن الكلمة المتسعة مثل اليابسة والبحر بلا حدود وبلا مواعيد وبلا مواقيت. قرعة على شبابيك «ويندوز» وإذا العالم جرم صغير: صحيفتك بين يديك. وفيلمك بين يديك. وكتابك بين يديك. وإذا كنت من هواة الرؤوس التي تقطع مباشرة على الهواء فهي بين يديك أيضا.

الصحافة المطبوعة قدمت لنا همنغواي وجويس وماركيز وأوكتافيو باث وقدمت لنا المحرضين على الجريمة والفحش والخراب. لكن الفرع الأول هو الذي طغى ودام، فيما في صحافة الانترنت العياذ بالله.