السجن انطلاق وإبداع!

TT

كأنهم كانوا في حاجة إلى السجن لكي ينطلقوا. كأنهم كانوا في حاجة إلى عزلة تامة ليكملوا الصورة العقلية الناقصة.. وعندما خرجوا من السجن لم يعبروا ولا هاجموا الذين حبسوهم، وإنما شكروهم على أنهم أعطوهم هذه الفرصة السعيدة بأن يكونوا وحدهم بعيدين عن الناس والقيل والقال وضوضاء الساسة وشوشرة الحياة.

فالأديب الإسباني العظيم ثرفانتس بدأ في السجن يكتب روايته الرائعة «دون كيخوته».. والشاعر الإنجليزي رالي حكموا عليه بالإعدام. وفي السجن ألف كتابا عن تاريخ العالم.. ثم أفرجوا عنه ليشارك في مهمة سرية للبحث عن الذهب في أمريكا الجنوبية وعاد خائنا فأعدموه.

والأديب كليلاند دخل السجن وفاء لدَين. وفي السجن كتب روايته البديعة «مذكرات غانية اسمها فاني هيل»..

والفيلسوف فولتير دخل السجن وواصل في السجن هجومه على رجال الدين وخرافاتهم في ملحمته الشهيرة «هنرياد»..

وفيلسوف التحليل المنطقي برتراند رسل سجنوه لأنه كان ينادي بالسلام في أثناء الحرب العالمية الأولي. وفي السجن ألف كتابا في الفلسفة الرياضية بعنوان «مبادئ الرياضيات».. وهتلر ألف في السجن قصة حياته بعنوان «كفاحي»..

وهناك الذين سُجنوا مدى الحياة. سُجنوا في الظلام لأنهم لا يبصرون: هوميروس، والمعري، والأعشى، وبابيني، وطه حسين ـ وما أروع ما كتبوا في سجنهم الأبدي.

والأستاذ العقاد شتم الملك فؤاد فسجنوه. يقول من قصيدة طويلة:

وكنتُ جَنينَ السِّجنِ تسعةَ أشهُرٍ

فهَأنَذَا في سـاحةِ الخُلْدِ أُولَدُ

وفي كلِّ يومٍ يُولَدُ المرءُ ذُو الحِجَى

وفي كلِّ يومٍ ذُو الجَهَالةِ يُلحِدُ

وقال لنا العقاد إنه في سجنه خطرت له أفكار كثيرة. وأقسم. ولم يستطع أن يفي بالقسم. قال إنه مهيأ تماما لشرح القرآن الكريم شرحا حديثا. وسوف يبدأ بسورة النور وسورة الرحمن وسورة هود.. ولكن المرض قد أعجزه عن كل ما وعد وتوعّد.. يرحمه الله.