مسير الحي يتلاقى

TT

هناك واقعتان حقيقيتان أحزنتاني وأفرحتاني في نفس الوقت، ولكن هل يجتمع الحزن والفرح في آن واحد؟!

نعم، فعن نفسي أتكلم وأقول: إنني طوال حياتي كان، وما زال، الحزن والفرح يملآن جوانحي، ولم يفارقاني يوما واحدا.

أعود لموضوعي وأقول: إن الواقعة الأولى حصلت في أوائل الستينات الميلادية، عندما توقف رجل ومعه زوجته وأطفاله أمام محطة للبنزين ليملأ سيارته في منتصف الطريق بين الرياض والطائف، وبينما كان العامل يملأ الخزان، وإذا المرأة تصيح بزوجها وتشير للعامل قائلة: إنه أخي، والله إنه أخي، غضب الزوج وأخذ يؤنبها، فما كان منها إلا أن تفتح الباب وتنزل وهي تصيح. تجمهر الناس حولهما واعتقد الرجل أن زوجته قد جنت، حتى أن العامل المسكين حاول الهرب، وأكد الحضور أن هذا العامل من اليمن ويسكن مع والده العجوز في صندقة خلف المحطة.

لا أريد أن أطيل عليكم، فذلك العامل كان طفلا لا يزيد عمره على خمسة أعوام، فقده والده البدوي عندما انطلقت به الناقة في عاصفة ترابية عاتية استمرت لعدة أيام، وجزم والده أنه قد مات، وسلم أمره لله.

وفي ثالث يوم التقطه أحد الرعاة وهو رجل طيب من أهل اليمن وكان الطفل بين الحياة والموت، وتبناه إلى أن وصل عمره إلى العشرينيات من عمره. وبعد التحقيق والتدقيق، قالت امرأة عجوز إذا كان ذلك العامل هو أخا لتلك الزوجة ففي جسمه علامة لا يمكن أن تنمحي، ففي صغره مرض وكويته أنا تحت سرّته ثلاث كويات، وعندما كشفوا عليه وجدوها فعلا، أما كيف أن أخته قد شكت وعرفته؟! فقالت: عرفته من جرح فوق حاجبه عندما تخاصم أبي مع أمي وقذفها بماعون من نحاس فأخطأها وأصاب جبهة أخي الذي يكبرني بسنة واحدة، وقلبي أكد لي أنه أخي.

تزوج بعدها وتوفي، وما زال أبناؤه وأحفاده يذكرونه بالخير حتى الآن. الواقعة الثانية حصلت عام 1942، عندما أبحرت باخرة من (سنغافورة) ممتلئة ومكتظة بالهاربين، وبينهم امرأة مع ابنتها ذات الستة أعوام، فهاجمتهم الطائرات اليابانية ودكتهم بالقنابل، وغرق من غرق، وضاعت الطفلة بين الأمواج فصاحت بها أمها أن تتشبث بخشبة طافية، وفي هذه الأثناء انتشل بعض الرجال الأم مبتعدين بها عن القنابل وهي تصيح: ابنتي ابنتي، ولكن دون جدوى.

انتهت الحرب بعد أعوام، وتيقنت أن ابنتها قد ابتلعتها الأمواج، فعادت مكلومة إلى بلدتها.

في هذه الأثناء كانت للأم أخت مقيمة في (نيويورك)، فكتبت لها أنها قرأت في إحدى الصحف أنهم انتشلوا طفلة قبل أعوام من عرض المحيط وأودعوها في أحد الأديرة في جزيرة (ايفيت)، فتحرك العقل الباطن للأم، وانطلقت إلى تلك الجزيرة وهي بين الرجاء واليأس، وعندما وصلت إلى هناك وقابلت الطفلة، وإذا بها لا تشبه (باتشي) ـ وهذا هو اسمها ـ كما أن الطفلة نفرت منها، وازداد يأسها عندما شاهدت علامة سوداء غائرة في فخذها ولم تكن في بنتها.

ورمت بآخر سهم في جعبتها عندما هداها تفكيرها وأخرجت رسالة كانت تود (باتشي) أن تبعث بها لعمتها، وقالت للمسؤولين إذا كانت هذه هي ابنتي فهي تكتب حرف الـ( E) معكوسة ـ أي هكذا (3).

عندها طلبوا من البنت أن تكتب جملة مفيدة، وإذا بها تكتب: I LOV3 You فأغمى على الأم من شدة الفرحة، وتساقطت دموع الحاضرين. وسمحوا للأم أن تهاجر إلى أميركا وتلتحق بأختها، وكبرت (باتشي)، وتخرجت في كلية الطب.

وهكذا هو العالم رغم كبره، فإنه أحيانا أصغر مما نتصور.

وصدق من قال: مسير الحي يتلاقا.

[email protected]