دراع مرسي

TT

دائما ما أسأل نفسي، كيف أصبح كلامنا فارغا في عز الأزمات التي تعصف ببلداننا المختلفة، دول فاشلة، وأخرى في طريقها إلى الفشل، وثالثة في مواجهة حركات انفصالية، وبالرغم من كل هذا فإن شاشاتنا وصحفنا تمتلئ بكلام متاجرة، مجرد ضوضاء أقرب إلى عالم رواية ميلان كونديرا الشهيرة «الوجود الخفيف الذي لا يحتمل»، أو مجرد مقاطع من رواية دون دالليلو «الضوضاء البيضاء» التي تسخر من وهج الشاشات. تستطيع أن تقول أي كلام غير مفهوم على شاشاتنا وفي صحفنا بالطريقة ذاتها التي كان يتحدث بها «الواد منصور» في مسرحية «مدرسة المشاغبين»، الدور الذي قام به المرحوم يونس شلبي باقتدار، عندما تحدث بطريقته الساذجة السريعة، وقال كلاما غير مفهوم عن أشياء لم يميز منها زملاؤه حرفا واحدا، كل ما التقطوه هو عبارة «دراع مرسي» في وسط كلامه. ودراع مرسي هو ذراع «فتوة الفصل» مرسي الزناتي الذي كسرته المدرسة سهير البابلي لتأديبه، وعندما سأله زملاؤه عن معنى ما يقول صرخ فيهم مرسي «الراجل ده بيتكلم صح، طالما جاب سيرة دراع مرسي، علي الطلاق الراجل ده بيتكلم صح». كل ما تحتاجه اليوم في الإعلام العربي، هو أن تقول أي كلام فيما يخص أمريكا وإسرائيل حتى تصبح نجما فضائيا وتحوز على رضى المذيعات والمذيعين من نجوم «التوك شو» العربي على شاشاتنا، فطالما زعق صوتك بشتم أمريكا وإسرائيل وأنظمتنا العربية العميلة، «يبقى أنت بتتكلم صح»، فتحوز على رضى مقدمي ومعدي البرامج، وعلى رضى أصحاب المحطة، وعلى رضى الجمهور.

الضيف لا يعرف أن يكسب الناس سوى بـ«دراع مرسي»، ومقدم «التوك شو» هو الآخر لا يعرف سوى «دراع مرسي»، والجمهور الشفوي الذي تفشت فيه الأمية لدرجة أن لدينا خمسين في المائة من الناس أميون، دعك من الأمية الثقافية والتي قد يصل معها الرقم إلى ثمانين في المائة، كلهم يحلفون بالطلاق «طالما قال دراع مرسي، يبقى الراجل ده بيتكلم صح».

قلة هم العقلاء في العالم العربي الذين يرون الأمور كما هي من دون اللجوء إلى أن يحلفوا بـ«دراع مرسي». وفي واحدة من أشد الأزمات التي تمر بها المنطقة وتتفكك فيها الدول والشعوب، يقدم الإعلام العربي لنا، الفضائي منه خصوصا، كلاما فارغا من المضمون منمقا في الشكل والتراص. يكفي أن تستمع وترى بعض البرامج التي تقدم «على الهوا» حتى تتعرف على طبيعة عرب الفضاء الذين بدأت عدواهم في الانتشار إلى عرب الأرض.

حتى معظم المقالات المكتوبة في الصحف العربية اليوم أصبحت كما حوارات «التوك شو»، مجرد ألاعيب لفظية، فهي تتكون من ثلاثة مقاطع متكررة. أولا، مقدمة يحتمي فيها الكاتب (أو الضيف على الهواء) برموز تقيه شر السلطة والمجتمع معا، فيبدأ البعض مقالته بلف نفسه في علم بلاده ليصبح الوكيل الوحيد للوطنية، فيقول «ومن منطلق المصلحة العليا للبلاد» أو «حتى نتصدى لأعداء الوطن» أو «بحكم دوري كذراع طولى تدافع عن البلاد ضد الأعداء»، بالطبع غير «دراع مرسي». هذا إن كان الكاتب علمانيا، أما إذا كان الكاتب من التيار الديني، فأول ما يبدأ به المقال هو أن يلف نفسه بعباءة الدين، ويصوب حرابه «ضد الكفرة والمشركين ممن هم بين ظهرانينا ومنهم من هم خارج ديار الإسلام». مقدمة الكاتب بطل التيار الديني غالبا ما تكون طويلة، ذلك لأن ذخيرته لا تنفد فهو يغرف من ابن تيمية تارة ومن ابن القيم تارة أخرى، معين لا ينضب. ثم ما ان ينتهي الكاتب من لف بنفسه إما بالعلم أو بعباءة الدين، أو بكليهما معا في بعض الحالات، حتى يطمئن بأنه قد حصن نفسه ضد أن يرمى بالخيانة أو الكفر، وكأن المسؤول عن صك الوطنية والخيانة أو الإيمان والكفر يقف في انتظاره حالما فرغ من كتابة المقال، أو خرج من ردهات الاستوديو التلفزيوني، وذلك لسيطرة عقلية التوجس والخوف التي تستشري في مجتمعاتنا.

ثانيا، بعد هذه المقدمة في حالة الكتابة، أو «خليني أفهمك الخلفية» في حالة الشاشة، تجد المتحدث أو الكاتب يبث رسائل غير مفهومة على طريقة «دراع مرسي» لأعدائه الحقيقيين والمحتملين، فيحيد بعضهم ويلقي بسهامه نحو البعض الآخر، فنجده مثلا محيدا للسلطة العليا إذا كان هدفه الهجوم على من هم أدنى منها مباشرة، إذ يقول «إننا نحن بصدد حالة من عبقرية القيادة وقصور الأجهزة»، أو أن «هناك حالة انفصال بين رؤية القيادة التقدمية وفكر البيروقراطية المتخلف»، وبهذا يكون قد ضمن عدم إغضاب السلطة وأعطى لنفسه الحماية وكذلك التصريح للانقضاض على أعدائه من دون هوادة. ثم يلمح الكاتب في الفقرة التالية إلى القوى الأخرى التي لا يقصدها، أيا كانت هذه القوى، الجيش أو أجهزة الأمن أو وزراء أو مسؤولين بعينهم أو كتابا ومفكرين.. إلخ. إلى هنا يكون قد وصل المقال إلى أكثر من ثلاثمائة كلمة، وربما أكثر في حالة كاتب التيار الديني الذي يتباكى على «فساد أمور البلاد، وعلى انحلال حالة العباد من كل فج وواد».

هذه المقدمة الطويلة مرتبطة ثقافيا بشكل القصيدة العربية الكلاسيكية، والتي غالبا ما تفتتح بالبكاء على الأطلال، على غرار «لخولة أطلال» في معلقة طرفة بن العبد. ولكن المقدمة الطويلة في القصيدة الكلاسيكية على الرغم من انفصالها غالبا عن موضوع القصيدة، فإنها كانت تؤدي دورا جماليا فنيا كما هو متوقع من الأدب عموما. أما في حالة مقالات اليوم، فإن هذه المقدمة التي يعلن فيها الكاتب وطنيته أو إيمانه أو ولاءه للسلطة ليدخل في الهجوم الذي يريده بعد ذلك، فإنها لا تخدم إلا مصلحته الشخصية مهما علا ضجيجها. الكلام الفارغ كما الوعاء الفارغ أكثر ضجيجا، لأن المضمون المنطقي يقلل من الانبهار بالكلمة ويلتفت إلى المعنى. إلى هنا يكون الكاتب قد وصل إلى أكثر من نصف المقال، أو المتحدث قد وصل إلى نصف الحوار المتلفز، وبالطبع بين كل جملة وأخرى يحدثنا الكاتب، أو النجم الفضائي، عن «دراع مرسي» من أعداء الخارج والداخل، وطالما «جاب سيرة دراع مرسي، يبقى الراجل ده بيتكلم صح».

لدينا اليوم أكثر من خمسمائة قناة تلفزيونية منفلتة لا معايير فيها لأي شيء. لدينا بعض مالكي القنوات التلفزيونية والصحف ممن لا يعرفون ما يكتب في صحفهم أو ما يذاع في قنواتهم، أهم شيء أنهم يقرأون أو يسمعون «دراع مرسي» في كل برنامج أو على صفحات جريدة. وطالما «دراع مرسي مكتوب، يبقى الصحيفة ماشية صح»، أو القناة «ماشية صح». لا يدرك هؤلاء أن قنواتهم وصحفهم مؤجرة مفروشة لتيارات وحركات استفحلت في المنطقة كل هدفها هو تقويض الدولة.

انظر إلى حالة مثل حالة مصر التي واجهت خطر العبث بسيادتها وأمنها من قبل حزب الله، فبينما الدولة تختلف مع حزب الله، تجد أن هذا الحزب قد استأجر بعض تلفزيونات مصر وصحف مصر الرسمية مفروشة. الدولة في واد وإعلامها في واد آخر. إعلام مختطف من جماعة مرسي و«دراع مرسي». أما باقي الكلام فهو حشو أشبه بهذيانات يونس شلبي في مسرحية «مدرسة المشاغبين». ترى متى تتنبه الدول لوضع معايير لتلفزيوناتها وصحفها؟ متى نخرج من حكاية «دراع مرسي» التي يطرب لها العامة ولكنها لن تفيدنا بشيء، وندخل في عالم الجدية الذي يهدف إلى بناء دول؟ الدول لا تبنى بالكلام الفارغ الذي لا يقدم ولا يؤخر. الدول تبنيها أذرع الرجال، أذرع جادة ليس من بينها، بكل تأكيد، ذراع مرسي المكسور.