آخر مبتكرات العنصرية: ممنوع الذاكرة

TT

عشية الذكرى الـ61 لنكبة فلسطين تفتقت ذهنية زعيم المتطرفين الصهاينة هذه الأيام ليبرمان عن مشروع قانون يمنع فلسطينيي 48 من إحياء ذكرى النكبة ويعاقب من ينتهك هذا المنع بالسجن مدة تصل إلى ثلاث سنوات، كما أعلن الجيش الإسرائيلي إغلاقا كاملا للضفة الغربية يستمر 48 ساعة بمناسبة ذكرى النكبة.... كل هذه الإجراءات وغيرها كثير من منع الفلسطينيين الاحتفال بالقدس عاصمة للثقافة العربية إلى منعهم من إقامة مركز صحفي بمناسبة زيارة البابا، تبرهن على الطبيعة القمعية المعادية لكل قيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان للنظام الذي أسسته الحركة الصهيونية العالمية بدعم غربي سافر مستخدمين الادعاء بأن فلسطين هي «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». العالم الغربي «المتحضر» تجاهل أن الشعب الفلسطيني متجذر في أعماق التاريخ والحضارة الإنسانية وأن فنونه وثقافته وحضارته ومساهماته الإنسانية والدينية والمعرفية لا يرقى إليها الشك. ولكنه سارع عام 1948 إلى حل مشكلته مع اليهود على حساب عرب فلسطين الذين سلمهم منزوعي السلاح إلى مجموعة متعصبة متطرفة تعتمد المجازر والقتل والتهجير والعنصرية أسلوبا وحيدا لتدمير فلسطين.

في الذكرى الـ61 للنكبة وبمقارنة ما يجري اليوم في فلسطين مع ما جرى منذ واحد وستين عاما حين لم تكن هناك صواريخ، ولم تكن هناك سيدرويت وحين كان سكان غزة اليوم ما زالوا يعيشون في مدنهم وقراهم الأصلية فيما يسمى اليوم فلسطين 1948، نرى أن أسلوب التهجير والمجازر والاستيطان والقتل اليومي المتواصل هو ذاته ولكن تحت مبررات وذرائع مختلفة. لم يكن هناك تمييز بين المسلمين والمسيحيين حين تمّ تهجير العرب من قراهم وارتكاب المجازر بمن حاول الصمود والبقاء فتمّت إبادة سكان مئات القرى وإزالتها من الوجود.

وما الدخول اليوم في أعذار وأوهام وأكاذيب ومبررات الاحتلال سوى القبول بالدخول في دائرة المحتل وأعذاره والتي تهدف جميعها إلى التغطية على أكبر جريمة عرفها تاريخ الإنسانية، والتي ما تزال ترتكب بحق شعب أعزل منذ منتصف القرن العشرين وهي مستمرة بعارها ودمويتها ووحشيتها إلى القرن الواحد والعشرين.

لقد راهن الإرهابيون الصهاينة، عندما قاموا بحملات المجازر المعروفة في دير ياسين وقبيه وكفر قاسم وغيرها بهدف تهجير سكان فلسطين، على أن الفلسطينيين في المنفى سوف ينسون بلادهم، وإذ بها تفاجأ اليوم بأكثر من ستة ملايين فلسطيني أشدّ تمسكا بمفاتيح منازلهم وأشدّ إصرارا على أن فلسطين هي وطنهم ووطن أبنائهم وأحفادهم. وقد أصبح «مفتاح العودة» اليوم رمزا للبيوت المدمرة، وتذكيرا بالقرى التي أقام عليها اليهود مستوطناتهم ومدنهم، ورمزا لإرادة شعب يأبى إلا أن يعود إلى أرضه ليقيم عليها دولته الوطنية. ولذلك يرى مسؤول إسرائيلي أن «إحياء أسبوع الثقافة الفلسطينية في القدس، عاصمة الثقافة العربية، أشدّ خطرا عليهم وعلى أمنهم من الصواريخ».

حاولت الصهيونية منذ انطلاقتها الاعتماد على الأكاذيب والترويج لها وتسويقها وتضليل العالم عن حقيقة ما يجري لفلسطين وأهلها معتمدة في ذلك على آلة إعلامية ضخمة، وعلى تشابك المصالح المالية مع النخب الحاكمة اقتصاديا في الغرب، كما عملت على صهينة «الإعلام الحر» وشكّلت من ذاتها مصدرا للمعلومة مقابل اعتقاد العرب أن «الحق واضح كشمس النهار» ولذلك فهو ليس بحاجة إلى ترويج أو إثبات. تزامن كلّ هذا وترافق مع تواطؤ غربي محكوم بعقدة الذنب تجاه اليهود نتيجة ما تعرضوا له على يد الأوروبيين الذين عرف عنهم معاداتهم للسامية وللعرب وللمسلمين، وللآخر عموما.

وللتكفير عن عقدة الذنب لديهم يساهم الغربيون في الجرائم المرتكبة بحق عرب فلسطين من خلال السكوت عنها وتزويد إسرائيل بالأسلحة النووية والجرثومية والقنابل العنقودية والفوسفورية وترسانة ضخمة تجعل من المتطرفين الصهاينة طغاة متجبّرين يرتكبون أبشع الجرائم دون خوف من عقاب.

ولذلك أيضا نرى الغربيين يكيلون بمكيالين في المؤسسات الدولية ويغضون النظر عن الوحشية والاضطهاد الإسرائيلي ضد الفلسطينيين. إذ لم تكن «إسرائيل» لتتمكّن من الاستمرار في ارتكاب جرائمها بحق شعب أعزل على مدى واحد وستين عاما لو كان هناك بالفعل شرعية دولية، ولو كان هناك إعلام حرّ، ولو كانت هناك ضمائر في مواقع اتخاذ القرار تأبى أن تكون ضحية للابتزاز أو الجبن أو المساومة.

وحتى حين يعترف الغربيون بالفلسطينيين يشار إليهم وللإسرائيليين الذين ارتكبوا الجرائم بحقهم بلغة تساوي بين القاتل والضحية. فمنذ أن اخترعت الدوائر الصهيونية تعبير «الطرفين» عام 2003، لتحل محلّ المعتدي الإسرائيلي المحتل والضحيّة الفلسطيني الذي يعاني من الاحتلال، درج معظم مسؤولي العالم على مناشدة «الطرفين لنبذ العنف والعودة إلى الحوار».

وفي وقفة قصيرة مع ما قاله قداسة البابا وهو يقف في ظلّ جدار الفصل العنصري نجد مثالا صارخا على ذلك إذ قال: «يخيّم فوق رؤوسنا تذكير صارخ بالطريق المسدود الذي وصلت إليه العلاقات بين الفلسطينيين وإسرائيل، ألا وهو هذا الجدار. نحن نصلي بصدق لأن ينتهي العداء الذي كان سبب تشييد هذا الجدار. هناك حاجة ماسّة على جانبي هذا الجدار لقدر كبير من الشجاعة إذا كان لدورة الخوف وانعدام الثقة أن تُكسر، وإذا كان للرغبة في الانتقام أن تُقاوم. يجب أن يتحلّى الطرفان بالرّغبة بالقيام بمبادرات جريئة وخلاقة باتجاه المصالحة».

حين ذكر قداسته الفلسطينيين وإسرائيل تمّ الإيحاء وكأنهما مسؤولان عن تشييد الجدار بينما شيّدته إسرائيل ووقع الأطفال والنساء والأقرباء العرب والقرى والمدن العربية ضحيّة هذا الجدار الإسرائيلي الذي قطّع الأوصال بين أبناء القرية الفلسطينية الواحدة، وحرم بعض القرى من مصادر مياهها وأخرى من مدارس أبنائها، فكيف يناشد مثله «الطرفين»، إذ ماذا يمكن للضحية أن تفعل إذا كان قادة العالم لا يجرؤون على قول كلمة حق في وجه معتد مغتصب يعلم الجميع، في ضمائرهم وقلوبهم، أنه يرتكب أبشع الجرائم بحق شعب أعزل توّاق للعيش بحرية وأمان.

وبعد هزيمة أكذوبتهم عن «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» بدأت الصهيونية تروّج لفكرة أخطر، تحاول أن تجعل من احتلال العراق حقل تجارب عليها، ألا وهي الفتنة الطائفية التي تقوم على أكذوبة «عدم قدرة أتباع الأديان الثلاثة على العيش في بقعة جغرافية واحدة» مع أن الله عزّ وجل قد اختار العالم العربي ليرسل رسل الديانات الثلاث ليدعو البشرية لعبادة إله واحد أحد، وليجعل التعامل بين البشر معيارا للتقوى.

ولذلك تنتشر هذه الأكذوبة في الإعلام العالمي هذه الأيام بفعل سيطرة الصهاينة على مفاصل أساسية فيه، في محاولة لإقناع العالم أن الإسلام هو المشكلة وليس قيام إسرائيل على سياسات هدم المنازل والقتل والتهجير والاستيطان!

ومع أن وعد بلفور بإقامة الدولة العبرية في بلد، كان المسلمون والمسيحيون يشكلون الغالبية العظمى من سكانه، هو وعد عنصري يتوافق مع أهداف الحركة الصهيونية، فإن كل ما أنجزه التحالف الصهيوني الغربي هو قيام دولة عنصرية مسؤولة عن تهجير ملايين الفلسطينيين لتصبح سجنا كبيرا يعتقل داخله ملايين الفلسطينيين، حيث يتعرضون لمعاناة وحشية وللاضطهاد وهدم المنازل والحصار والتعذيب والقتل اليومي، ورغم أن الغربيين يطلقون على إسرائيل اسم «واحة الديمقراطية» فهي، في الواقع، معسكر محاط بالأسوار، وجدران الفصل العنصرية، وتنتشر فيه السجون السرية والعلنية ومراكز التعذيب، والمفاعلات النووية، ومخازن أسلحة الدمار الشامل، والمطارات العسكرية، والمتطرفون من المستوطنين والقتلة.

في الذكرى الـ61 لنكبة فلسطين آن للعالم أن تنقشع رؤيته وأن يستذكر تاريخ هذه النكبة، منذ اليوم الأول، حيث سادت جرائم الإرهابيين من مجموعات الشتيرن والهاغانا وغيرهم، ليرى أن النموذج هو ذاته ولكن الأساليب والذرائع والحجج فقط تتبدل بتبدل الأوقات والأزمان. لا شك أن استمرار الشعب الفلسطيني جيلا بعد جيل بالتمسك بحقوقه، والدفاع عنها بكل الوسائل الممكنة، سوف يحفر اسم هذا الشعب في ذاكرة التاريخ أنموذجا للشعب المكافح ببسالة عن حقه في الحرية والسيادة والكرامة، والموقف الغربي من القضية الفلسطينية فسيظل عارا يلاحقهم، فهو المسؤول أولا ودائما، عن المجازر الإسرائيلية التي تلاحق الفلسطينيين منذ أكثر من ستين عاما.

وكلما شرّع المحتلون الإسرائيليون قوانين لخنق العرب وطمس قضيتهم، تفجرت بذور هذه القضية في أذهان العالم لتصبح ليس فقط قضية كفاح العرب في وجه الوحشية الصهيونية، وإنما قضية العالم في وجه آخر شكل من أشكال العنصرية والاضطهاد والاستيطان الأجنبي لأراضي الغير.

www.bouthainashaaban.com