من إفشال الدولة اللبنانية إلى بناء «الجمهورية الثالثة»

TT

من أطاق التماس شيء غلابا واغتصابا، لم يلتمسه سؤالا

(أبو الطيب المتنبي)

في مكان ما بين الصومال والعراق.. يمكن اليوم وضع لبنان.

القصد ليس الموقع الجغرافي، بالطبع، بل الوضع البنيوي في سلم «الدول الفاشلة».

خلال الأسبوع الماضي، في خضم «الانكشافات» المتلاحقة لشبكات التجسس لحساب إسرائيل، قال الشيخ نعيم قاسم، نائب الأمين العام لـ«حزب الله» كلاما مهما مضمونه أن «العقوبات الخفيفة» التي كان يتعرض لها عملاء إسرائيل والمتعاونون معها شجعت كثيرين على التورط مع شبكات التجسس.

هنا أتصور أن قاسم يعني العقوبات والأحكام الصادرة منذ 2005، أي بعد الانسحاب العسكري السوري من لبنان. فقبل ذلك، كانت السياسات التي طغت على القضاء اللبناني معروفة الهوية والهوى. وبالتالي، إذا كان ثمة تقصير في كشف الشبكات ـ التي من المستبعد أن تكون كلها نبتت بين 2005 و2009 ـ لوَجب تقاسم المسؤولية بين «الدولة الأمنية» ومن جاء بعدها.

ثم إنه لو طبقت العقوبات الثقيلة بحق المتعاملين مع إسرائيل لكان «حزب الله»، بالذات، قد فقد اليوم أحد أعز حلفائه. فـ«التيار» الذي يبذل «الحزب» الغالي والرخيص من أجل فرضه محتكرا للصوت المسيحي، ذهب زعيمه الأوحد إلى واشنطن ليتكلم في الكونغرس ـ أهم منبر لـ«اللوبي الإسرائيلي» في العالم ـ محرضا على المقاومة وعلى سورية، وادعى أبوة «قانون محاسبة سورية» الذي ألفه ولحنه ذلك «اللوبي». وهو ما دفع «الدولة الأمنية» للتنكيل بشباب «التيار» وملاحقه زعيمه الأوحد بعصاها القانوني!

في أي حال، لا بأس من العفو عند المقدرة.

والمقدرة، كما بشرنا بالأمس السيد حسن نصر الله، الأمين العام لـ«حزب الله»، هي الشيء الوحيد الذي لا ينقص «الحزب»، الذي يستطيع بمفرده ليس فقط حكم لبنان.. بل حكم «بلد مائة مرة أكبر من لبنان» (!).

لكن العَفو كما يستشف من خطاب الأمين العام ونبرته بَعيد اليوم تماما عن فِكر «الحزب» ونهجه. وما يقوله قادة «الحزب» وما يمارسه وأدواته وحلفاؤه داخل مجلس الوزراء، وخارج مجلس الوزراء، مؤشرات تدل على أن «الحزب» انتقل إلى المرحلة التالية في التحضير لـ«الجمهورية الثالثة» التي يظهر أنه حان وقتها.

فخلال عقد الثمانينات، عندما كان «حزب الله» قوة مقاومة لا مؤسسة سلطة، وَرَد في أدبياته هدف العمل لبناء «الجمهورية الإسلامية» (على النسق الإيراني، طبعا). وأثار هذا الهدف لغطا في الشارع اللبناني حينئذٍ، فكان أن حدَثت مراجعة لا تلغي الهدف، بل توضِح «أن الوقت لم يحِن بعد لبناء الجمهورية الإسلامية». وهكذا تحولت القضية من مسألة مبدأ إلى مسألة توقيت.

في تلك الفترة كانت إيران الخمينية منشغلة بهموم إقليمية عدة، وكانت عمليا في حالة حصار سياسي وعسكري من الشرق، حيث أفغانستان وباكستان... والغرب حيث «عراق صدام حسين» والوجود العسكري الأميركي في الخليج وتركيا.

لكن وضع إيران أخذ يتبدل تدريجيا منذ النصف الأول من عقد التسعينات. وأسهم في إحداث هذا التغيير عدة عوامل، أبرزها:

الشلل والعجز، وأيضا سوء القراءة السياسية، في النظام السياسي العربي.

تخطيط اليمين الإسرائيلي لفتنة إقليمية «استراتيجية» تقضي نهائيا على القضية الفلسطينية بأبعادها؛ الديموغرافي والجغرافي والسياسي والفكري، وهو ما تجلى في أقبح صورة مع وثيقة «طي الصفحة نهائيا» أو A Clean Break: A New Strategy for Securing the Realm، التي أعدها غلاة «المحافظين الجدد» عام 1996 لبنيامين نتنياهو. والتي تقوم على رفض مبدأ «الأرض مقابل السلام»، والعمل على تدمير منطقة الشرق الأدنى.

التفويض الأميركي مداورة لجناحي «اللوبي الإسرائيلي» (الليكودي إبان حكم الجمهوريين، والليبرالي إبان حكم الديمقراطيين) لتولي رسم أولويات واشنطن الإقليمية.

نجاح إيران في تفادي الانزلاق إلى حرب استنزاف في أفغانستان، سعت لها واشنطن بالتعاون مع الاستخبارات الباكستانية وربيبتها «طالبان».

بعد ذلك، جاءت اعتداءات 11 سبتمبر(أيلول) 2001 لتقدم الفرصة لـ«المحافظين الجدد» كي يباشروا مخططهم التدميري، على أساس «أن الخطط موضوعة وجاهزة» كما قال بول وولفويتز لرئيسه جورج بوش «الابن» عندما اقترح أمامه غزو العراق. وأسهم التعاون العميق في عملية الإعداد للعراق في مرحلة ما بعد صدام بين «واشنطن بوش» وقطاع واسع من القوى العراقية الشيعية المستقرة في إيران، بإقناع جهات نافذة في واشنطن بصوابية الرهان على براغماتية أصوليي «الشيعية السياسية» في المنطقة في وجه أصوليي «طالبان» و«القاعدة» وشراذم أصوليي «السنية السياسية» من الجزائر والمغرب غربا إلى إندونيسيا شرقا.

وكان أول الغيث الانفتاح الفرنسي في عهد نيكولا ساركوزي ـ صديق إسرائيل الأبرز في فرنسا ـ على كل من دمشق وطهران في عز توتر الأزمة اللبنانية والجدل الدائر حول المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري ورفاقه. وأيضا أمام خلفية المراوغة الإيرانية في ملفها النووي، والانحراف الإسرائيلي الرسمي نحو مزيد من التطرف والتعسف ضد الفلسطينيين.

وتسارعت الخطى أكثر منذ نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وبداية عهد باراك أوباما في البيت الأبيض. وبعد كلام بعض وجوه ليبراليي «اللوبي الإسرائيلي» في واشنطن عن ضرورة تناسي الملف الفلسطيني «الشائك» والتفرغ للملف السلام السوري – الإسرائيلي، طرحت الأكذوبة القائلة إن انفتاح واشنطن على دمشق إنما يأتي بهدف إبعادها عن طهران. ولكن لم يمر إلا بضعة أشهر حتى أعلن السناتور جون كيري، الرئيس الحالي للجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ والمرشح الديمقراطي الرئاسي السابق، أن خيار المواجهة مع طهران غير مطروح.

هذه الرسائل فهمتها «دويلة حزب الله» في لبنان، الممتدة إلى غزة ومصر وربما إلى السودان واليمن أيضا. وبادر الشيخ نعيم قاسم لطمأنة مناصري «الحزب» إلى أن المجتمع الدولي قرر التعامل مع «اللبنان» الذي سيخرج من انتخابات 7 يونيو (حزيران)، التي ستجري في ظل سلاح «الحزب» وأمواله وصلاته عبر الحدود.

أبعد كل هذا، هل يجوز أن يفاجأ المرء بإعلان السيد حسن نصر الله يوم السابع من أيار (مايو)، أي يوم غزو بيروت وتهديد الجبل «يوما مجيدا من أيام المقاومة في لبنان»؟

أبعد هذا، هل يبقى أي ريب في مشروع الفتنة أو الهيمنة المذهبية على أنقاض «الدولة» التي أفشلتها «الدويلة»؟

أبعد كل هذا، وبعد ما حدث ويحدث في غزة من تصفية ممنهجة للقضية الفلسطينية على وقع الحوار الإقليمي بين واشنطن وجبهة «الممانعة»، هل يجوز أن يشك إنسان عاقل بأن هذا بالضبط ما تريده إسرائيل؟.