«شهريارات» المال و«شهرزادات» الفضائيات!

TT

الهاتف المحمول في العالم وسيلة اتصال، وفي حياتنا وسيلة بث 24 ساعة «بس» يوميا، ونزعتنا للثرثرة ليست وليدة الهاتف المحمول، فمنذ أن كنا صغارا كانت لعبتنا المفضلة أن نوصل حبلا بين علبتين من الصفيح لنقيم حوارا مع بنت الجيران التي تقف عند الطرف الآخر من الحبل. وكبرنا، وكبرت اللعبة، وغدونا أشهر المتصلين بالبرامج التفاعلية في مختلف القنوات الفضائية، وليس مهماً ما نقوله، فما يعنينا أن يسمعنا الناس، ونحن نتحدث مع «نيرفانا»، أو «رولا»، أو «حليمة»، ولولانا لبارت هذه البرامج، وأوقفت القنوات مطلاتها، وسرحت جميلاتها، وأغلقت الباب الذي يأتينا منه الريح؛ فتريح وتستريح.

وينهمر للحظة صوت المذيعة الحسناء من إحدى القنوات الفضائية:

ـ «أهلا بك يا عبد السميع، وبالمناسبة عبد السميع صديق قديم للبرنامج، وهو معنا تقريبا كل يوم».

فيندلق صوت عبد السميع اللميع متحشرجا كمن فرغ لتوه من أكل خروف بأكمله:

ـ «مساء الخير نيرفانا، ليست لدي مداخلة الليلة، فقط حبيت أن أمسي على الحلوين اللي منورين الشاشة».

وتضيء الشاشة بابتسامة نيرفانا، وهي تقول:

ـ يااااه.. شكرا سُمعة. وانت كمان منورنا بمشاركاتك».

وتتجاوزه إلى متصل آخر، وثالث، ورابع، وخامس، وجميعهم من الربع، وشركات الاتصالات التي تحتضن الكلام تصر على وضع حد ائتماني للمشترك، مع أن الحجر من الأرض، والدم من رأسنا، والنقود من جيوبنا!

قلت للجالس بجواري في المقهى، وأنا أرتدي ثياب الوقار:

ـ «ماذا لو تبرع هؤلاء بتكاليف الاتصالات إلى الجمعيات الخيرية، بدلا من الحديث إلى نيرفانا؟».

تنحنح أولا، ثم حك نصف صلعته، وسحب نفسا من «أرجيلته»، قبل أن يقول:

ـ «الحديث مع حسناوات الفضائيات أكثر أمنا من التبرع للجمعيات الخيرية، فلن تكون عرضة لأن تتهمك أمريكا بتمويل جماعات إرهابية، لأن الحديث مع ميرنا، ورولا، ونيرفانا يدخل في باب الكلام المباح».

يتبع جاري في المقهى الموضة الشائعة، فهو يحمل جهازي هاتف من ماركتين مختلفتين، ربما يستقبل من أحدهما مكالمات الرعاع، والآخر لمكالمات الصفوة، وحينما رن أحدهما، انطلق صوت إليسا صادحا: «عايشالك أحلى سنين في العمر يا ضي العين»، وانطلق من الهاتف الآخر في نفس اللحظة ما يشبه النشيد الجنائزي، فانحاز جاري لصوت إليسا، وراح يثرثر.

وسرحت أنا في بنت الجيران التي جرفها السيل ذات موسم مطر، يوم عجز الحبل المنتهي بعلبة الصفيح أن ينقذها من الغرق.

[email protected]