لا «أسلمة» للتطبيع قبل قيام الدولة الفلسطينية

TT

مواقف عربية «أكروباتية». نشكو من انحياز أميركا لإسرائيل. ثم نعتب عليها إذا أهملت وابتعدت. ثم فورا نتهمها بتصفية القضية إذا اهتمت وتورّطت. كأن هذه القضية وجدت لتبقى إلى الأبد، من دون حل. قضية للمناضلين بالتنظير والكلام، فيما الأرض تذوب وتُستوطَن قطعة وراء قطعة. أو هي قضية لمقاومة مسلحة كانت فالتة في الضفة، وغير مجدية في غزة.

من هنا، أرجو أن لا أُتهم بالمزايدة الكلامية على الرئيس أوباما، لعزمه الواضح على التورط في محاولة حل قضيتنا المستعصية «إياها». كل غرضي أن أنبه سلفا بحسن نية، وبصوتي المتواضع، الرئيس الأميركي، وقبل أن يعلن رسميا تفاصيل مبادرته، إلى أن مقدماتها التي ينشط دبلوماسيون أميركيون وساسة عرب في الترويج لها، تنطوي على تقدير أميركي خاطئ، من شأنه تمكين المزايدين والمعادين لأميركا من إحباطها، وإلحاقها بعشرات المبادرات الفاشلة، خدمة لمصالحهم في إبقاء القضية مشتعلة.

المعلومات المتوفرة تفيد بأن العرب مُطالَبون أميركيا بتقديم تنازلات إضافية، لإرضاء حكومة نيتنياهو الرافضة.«نيويورك تايمس» كبرى الصحف السياسية الأميركية تقول إن جورج ميتشل مبعوث أوباما إلى العرب وإسرائيل يلحّ علي عواصم عربية، لإقامة علاقات دبلوماسية وتجارية مع إسرائيل، وتدشين خطوط جوية إلى تل أبيب!

ما هو أهم من ذلك، أن معلومات أخرى واردة من واشنطن تقول أيضا إن باراك «حسين» أوباما، يريد «أسلمة» التطبيع مع إسرائيل، قبل قيام الدولة الفلسطينية. هو يخطط لحضور العالم الإسلامي، على مستوي عالٍ، لحفل تدشين المفاوضات الفلسطينية / الإسرائيلية. بل هناك من يقول إن العالم الإسلامي مدعو إلى المشاركة، بشكل وآخر، في هذه المفاوضات إلى جانب الفلسطينيين والعرب.

وجه الخطر في هذه «الترويجات» عن التنازلات المطلوبة من العرب، هو أن الهدف مجرد إرضاء واسترضاء حكومة ليبرمان / نيتنياهو، وتشجيعها، وليس إلزامها، على مفاوضة عباس وعريقات، وحفزها على تفكيك بعض المواقع الاستيطانية غير المرخصة، وليس المستوطنات.

كان من المفروض والمتوقع طرق وتليين الدلع الإسرائيلي الرافض، وليس الفرض على الفلسطينيين و22 دولة عربية و35 دولة إسلامية، تقديم تنازلات الاسترضاء. القضية الفلسطينية عربية أولا وأخيرا. العرب لا ينقصهم مال أو سلاح أو رجال. لا ينقصهم زعماء ودبلوماسيون مفاوضون ومَهَرَة. «أسلمة» المفاوضات والتطبيع إغراء أميركي غير واعٍ، لتاريخ طويل من تدخل غير العرب في الوطن العربي، تدخل أفقد العرب هويتهم القومية، فيما احتفظ المتدخلون، من فرس وأتراك وأكراد ومغول وتتار، بهوياتهم ولغاتهم وتقاليدهم، وهم يحكمون العرب ألف سنة.

العالم الإسلامي متعاطف مع العرب، ولا أقول إنه متضامن وداعم. بعض دوله يقيم علاقات ديبلوماسية وتجارية وعسكرية مع إسرائيل. العرب بحاجة إلى أكثر من تعاطف إخوتهم المسلمين. هم بحاجة إلى تضامن إسلامي حقيقي. إلى دفاع عن حقوق الفلسطينيين. إلى الضغط على الغرب. أما إشراكهم في المفاوضات، أو إكراههم على التطبيع والاعتراف بإسرائيل، لمجرد إرضاء واسترضاء ليبرمان ونيتنياهو، فهذا استخفاف بالإسلام، وإذلال لدوله وحكوماته وزعمائه وهيئاته.

إيران مثال على التورط الديني غير المرغوب فيه في العالم العربي. إيران حالة إسلامية سلبية بالنسبة للعرب. لا فارسيتها صالحتهم. ولا إسلامها آخاهم وأراحهم. «أسلمة» إيران للقضية العربية أدت إلى شق الفلسطينيين، وتمزيق العرب إلى عرب مع إيران، وعرب ضدها. إلى عرب سنة وعرب شيعة أو بالتشيع.«أسلمة» التطبيع والاعتراف بإسرائيل والمشاركة في المفاوضات، سابقة سوف تشجع إيران ودولا إسلامية على مزيد من التورط المتدخل في شؤون العرب.

الخميني ادعى أنه يريد اختراق العراق حربا، للوصول إلى فلسطين. علق مفاتيح القدس في رقاب جيل إيراني مراهق، ودفعه إلى الفناء على أسلاك وحصون الدفاع العراقية. بل راح يطالب بإشراك إيران والدول الإسلامية في خدمة وحراسة العتبات المقدسة في مكة والمدينة، تحديا للسعودية والعرب الأمناء على هذه العتبات وخدمتها، على مدى 1400 سنة.

الطريف أن «دويتو» ليبرمان / نيتنياهو يدعي أمام أميركا / أوباما أن النظام العربي متحالف مع إسرائيل ضد إيران. نفاق الادعاء يرمي إلى تقديم خطر إيران على «خطر» الدولة الفلسطينية. الادعاء ليس صحيحا. الصراع العربي مع إسرائيل مصيري، كدولة غازية ومستوطنة. النزاع العربي مع إيران سياسي وديني. إيران جارة تاريخية للعرب. إيران دولة مسلمة.

نعم، الشعوب لا تستطيع تغيير جيرانها التاريخيين. تصبر على تخلف عنادهم وتدخلهم. لكنها تحتج وتقاوم زراعة شعب آخر مختلف عرقيا ودينيا في صميم أرضها ومجتمعاتها. العرب في نزاع مع إيران، وفى قلق من قنبلتها وتدخلها. لكنهم لا يرضون بقصفها، وإن كان خنجرها مغروسا في ظهورهم.

حتى المفاوضات مشكوك في نجاحها ووصولها إلى حل نهائي. تحدثت طويلا في الثلاثاء الماضي عنها. ناشدت عباس عدم التورط فيها، من دون قبول نيتنياهو بالدولتين، والانسحاب ووقف الاستيطان. لا يكفي حضور ميتشل أو فيلتمان. إذا كان أوباما راغبا في حل سريع وجدي ينقذ سمعة أميركا ويؤكد مصداقيته، فعليه التدخل شخصيا في المفاوضات، تماما كما فعل كلينتون الذي كان قادرا على التوصل إلى حل، لو لم تنته ولايته. أوباما الآن في مستهل ولايته، وذروة شعبيته، وقمة قوته السياسية. كلما تردد وتأخر في التورط الشخصي، منح القوى الصهيونية العالمية الفرصة، لاختلاق الخطط والمناورات، لإحباطه وتعجيزه، بل ربما لتصريفه وتغييبه.

أتمنى أن يواجه الرئيس مبارك الرئيس أوباما باتفاق وحدة بين الفلسطينيين. أتمنى أن يسمع مشعل وعباس ما يقول نيتنياهو عن الفلسطينيين. فهم عنده «غير مؤهلين للاستقلال». عدو جاثم على الأبواب والأرض. والزعماء الفلسطينيون يستعيدون تاريخ نزاعات دويلات الطوائف، في آخر أيام العرب في الأندلس.

أوباما مطالب عربيا بأن يقرن وعوده الكلامية بالعمل: دولتان. وقف الاستيطان. فتح المعابر. إلغاء الحواجز. «ديبلوماسية القوة الذكية» قادرة على كشف تذاكي نيتنياهو بجعل قصف إيران شرطا للتفاوض مع عباس! ومنع أوروبا وأميركا من الحوار مع حكومة وحدة فلسطينية تشارك فيها حماس، ومحاولة تأليب الكونغرس على خطة أوباما لتمويل إعمار غزة بمليار دولار.

أخيرا، لا عتب على «الحماسي» مشعل الذي يقدم حماس على القضية. عتبي على عباس. السياسي الذكي يعرف متى يقدم، ومتى ينسحب. عباس قادر على ترشيح مروان البرغوثي خلفا له. مروان رئيسا وهو قابع في السجن، أقوى من أي رئيس متربع في رام الله. حطم نلسون مانديلا نظاما عنصريا في أفريقيا، وهو قابع في سجن دولة الأبارتيد. وأظن الفلسطينيين والعرب بحاجة إلى مانديلا آخر، يعرف متى يترأس، ومتى يستقيل وينسحب.