الكويت تزهر أربع مرات!

TT

مع إعلان أولى نتائج الانتخابات النيابية الكويتية بالدائرة الثالثة، التي حصدت فيها أسيل العوضي المركز الثاني، ثم توالت الأخبار عن «بطلة» الدائرة الأولى معصومة المبارك، ثم رولا دشتي وسلوى الجسار، أدركت حقا أن الكويت سجلت سابقة ضخمة في المجتمعات الخليجية قاطبة، بل والعربية، من خلال إيصال أربع سيدات، وبقوة انتخابية شعبية، إلى مقاعد البرلمان المحتكر للرجال، من غير حجة دستورية منذ 1963.

سابقة في العدد، وسابقة في مستوى دعم الناخب الكويتي، وسابقة في اختراق النساء للحواجز الطائفية والاجتماعية، فمن صوت للوزيرة السابقة معصومة المبارك، وهي الشيعية أسرة، التنويرية طرحا، لتحل الأولى في دائرتها المختلطة، هم من كل الشرائح؛ حضر وبدو، شيعة وسنة، وكذلك فازت رولا دشتي بأصوات الدائرة الثالثة المكتظة بالحضرية السنية. وأما أسيل العوضي، الدكتورة الليبرالية التي شنت عليها حملة تشويه ديني أثناء الحملة الانتخابية، فتجاوزت عتاة البرلمانيين مثل النائب أحمد السعدون، وعتاة الأصولية مثل النائب وليد الطبطبائي.

تذكرت بعد نشر خبر فوز الرباعي النسائي، الحديث الذي قاله لي المفكر الكويتي الدكتور غانم النجار، حين بدا متفائلا رغم كل الإحباطات والتوترات التي سادت الكويت، ومن يراقب الحالة الكويتية في الخليج، إثر تعطل لغة الحوار بين البرلمان والحكومة، وتدفق الاستجوابات لرئيس الحكومة كالسيل العرم، وتزايد الحديث وقتها عن قرب غروب الديمقراطية الكويتية على أيدي نواب قضايا: الاختلاط، ومحاربة الظواهر السلبية ونواب المماحكات، وبفعل الذعر الحكومي من مواجهة النواب، كان الدكتور النجار وهو يحدثني من مكتبه في الجريدة، يبدو متفائلا وهو يعرض لي ملحمة الدستور في الكويت وتقلبات الليالي والأيام في المجتمع والسلطة، وقال: يكفيني من الانتخابات المقبلة، وكان يعني هذه التي انتهت، أن تصل المرأة للبرلمان، هذا بحد ذاته قفزة كبرى تتجاوز السياسة إلى التحولات المجتمعية الأهم من السياسة. فنحن نطلب من كل مجلس، كما يقول النجار، إنجازا واحدا يبنى عليه لاحقا، فالمجلس السالف، قبل الأخير المنحل، أقر قانون الدوائر الخمس، بعد الخمس وعشرين دائرة، للحد من ظاهرة شراء الأصوات، وللحد من فوز المرشح الطائفي والعشائري والعائلي، لصالح المرشح السياسي ذي الأجندة الوطنية العامة. والمجلس أقر في 2005 قانون حق المرأة في الترشيح والتصويت، وبقي أن تصل، وقد وصلت الآن، بعد تعثر سابق.

أكثر المتفائلين لم يكن يتوقع وصول المرأة بهذه الطريقة وبهذا العدد، أذكر أنني ناقشت الدكتورة أسيل العوضي أثناء انتخابات 2008 التي لم تفز فيها، وإن كانت قاربت الفوز بعدما حلت في المرتبة الحادية عشرة، وكانت متفائلة بوصول المرأة، وقالت: إن لم يحالفنا الحظ في هذه الانتخابات، فحتما في الانتخابات المقبلة، نحن للتو بدأنا ونحتاج أن نتحلى بالصبر على الناخب الكويتي. وكانت ترفض مبدأ «الكوتا» النسائية. لكن أبدا لم يكن في توقعاتها أن تصبح الواصلات لقاعة عبد الله السالم هن أربع سيدات، كان الحديث عن واحدة أو اثنتين.

وفي أثناء التحضير للحملة الانتخابية الأخيرة، كانت الدكتورة رولا دشتي متفائلة كثيرا بوضع المرأة في هذه الانتخابات، سواء على صعيدها الشخصي أو على صعيد المرأة المترشحة بشكل عام، ورفضت الدكتورة رولا في حديثها لي مبدأ الكوتا أيضا بقوة، وحجتها أنه إن لم يوصلنا الناخب الكويتي دون فرض من السلطة، فأفضل أن لا نصل حتى يقتنع الناخبون الكويتيون بما لدى المرأة الكويتية من قدرات وحلول.

أعترف أنني لم أكن أشاطرهن نفس التفاؤل، كنت أتوقع وصول سيدة واحدة على الأكثر، ولذلك كنت أميل إلى «الكوتا»، سواء في الكويت أو في البحرين وغيرها، أسوة بما لدى الأردن والمغرب وبعض الدول في العالم، التي تلجأ لوسيلة الكوتا أو الحصة المضمونة لشريحة معينة من المجتمع، النساء أو غيرهن، حتى لا تضيع حقوق الأقليات والفئات المغيبة من المشهد السياسي من المشاركة في عملية التشريع والمراقبة النيابية، إلى أن يتعود المجتمع على رؤية هذه الشرائح وتضمحل معارضته، التي هي في جوهرها معارضة نفسية غير منطقية، يقوم على تغذيتها، بعض الرجال إما عبر إثارة المخاوف الدينية أو المخاوف التقليدية.

الحق أن المرأة الكويتية كسبت الرهان هذه المرة، ودخلت البيوت من أبوابها، وليس من نوافذ الكوتا الضعيفة. وهذا بحد ذاته إنجاز ربما يفوق إنجاز عدد الواصلات، أو يوازيه، لقد وصلت أربع سيدات إلى البرلمان باختيار شعبي خالص، الأمر الذي يشرع الباب أمام دراسة التحولات التي طرأت على مزاج الناخب الكويتي، الذي انتخب في المجلس المنحل أغلبية أصولية أو شديدة المحافظة، فما الذي جعله لا يصغي إلى فتاوى التحريم التي نشطت الأيام السابقة لمنع و«تأثيم» انتخاب المرأة، باعتبار ذلك مخالفا للشرع لأنه لا يجوز للمرأة أن تتولى «ولاية عامة»، والمقعد النيابي جزء من هذه الولاية، حسب مواقف الحركة السلفية في الكويت التي أصدرت بيانا خاصا بهذا الصدد (يخالفها الرأي إسلاميون آخرون حول مفهوم الولاية العامة) وجدد الموقف أمين عام هذه الحركة خالد السلطان، الذي كتب مقالا بعيد إعلان فوز معصومة وأسيل ورولا وسلوى، بأنه حزين لهذا الأمر. ويقول كما في جريدة «الوطن» الكويتية: «كانت أمنيتي القلبية ألا تفوز ولا امرأة في الانتخابات البرلمانية وذلك لأنني من أنصار القول بحرمة ترشيح المرأة نفسها أو التصويت لها وذلك لدخول المجلس النيابي بالولاية العامة. والولاية العامة في الدولة المسلمة، والكويت منها، خُصت للرجال دون النساء». المفارقة أن نواب الحركة السلفية هم من خسر بعض المقاعد لصالح النساء وبعض القوى الأخرى، وكذلك الأمر مع نواب الإخوان المسلمين الذين انخفض عددهم من ثلاثة إلى واحد، وكانوا من قبل سبعة نواب.

كل هذا، أعني فوز النساء وتقلص حصة التيار الأصولي، جديد ومثير، غير أنه يجب أن لا يجعلنا نرسم صورة مبالغا فيها عن التحول «المفاجئ» في المجتمع الكويتي، فما زالت الطائفية تصرخ، من الجانبين، فمن أبّن عماد مغنية، وصل، ومن أشعل الفتنة في قضية السيد الفالي، وصل أيضا، أي متطرفي الشيعة والسنة.

البعض يرى أنه من غير الضروري أن نجعل 16 مايو (أيار)، يوم فوز النساء الأربع، هو إعلان بانتهاء الخطاب المعادي للمرأة وبداية عصر المرأة الجديد، وأن هناك نقلة على مستوى التفكير والمفاهيم الحاكمة في الشارع الكويتي إزاء الحريات والمرأة والتنوير، صحيح أنها نتيجة محبطة لمن كان يتوهم امتلاك الشارع وتحديد مساره، ولكن ربما كان الناخب الكويتي هنا محكوما بدافع العقاب للنواب والتيارات التي لم يقتنع بطرحها أو أدائها السياسي، فبحث عن خصوم هذا التيار فرأى المرأة ماثلة أمامه فصوت لها، أضف إلى ذلك أن العنصر المشترك في السيدات المنتخبات هو التأهيل العلمي العالي، والخبرة الإدارية وحتى السياسية من الوزيرة والناشطة والأكاديمية معصومة المبارك، إلى الاقتصادية المحترفة رولا دشتي، إلى الأكاديمية والناشطة، والوجه المعروف أخيرا أسيل العوضي، إلى الأستاذة الجامعية المؤهلة سلوى الجسار، فلم ير الناخب مطعنا سياسيا أو تأهيليا فيهن، إضافة إلى نصاعة صفحتهن السياسية البيضاء إزاء الرجال الذين تورطوا كثيرا في صراعات ومماحكات استنزفت الكويت.

إننا حينما نفيض في الحديث عن سيدات الكويت الأربع، فلأن تلك واقعة تتجاوز حدود الكويت لتصل إلى الخليج كله، فالمرأة الخليجية وبعد أن اشتد عود دولها وتعلم أبناؤها وبناتها، وعملوا في كل المجالات، حتى المستوى الدولي، وقادوا الإعلام والتجارة، بعد هذا كله لم يعد هناك من مبرر للتشكيك في قدرات المرأة، وأحسن من تأليف كتاب ومحاضرة عن حقوق المرأة العامة، هو إيجاد النموذج العملي الحي والمراقب من قبل المجتمع كله.

كثيرون يستحقون التهنئة في الكويت على هذا الإنجاز الكبير، بداية من الدولة التي كانت شفافة ومحايدة، وصولا لأصغر ناخب، ولكن يحضرني هنا رجل وامرأة، الرجل متوفى والمرأة على قيد الحياة، أما الرجل فهو الشيخ عبد الله السالم مؤسس الدستور في الكويت، والمرأة هي نورية السداني، التي طالبت منذ أوائل السبعينات بحقوق المرأة السياسية.

لا فرق، في القدرات وفي الحرص الوطني، بين رجل وامرأة، العقل يقول ذلك، والشرع الصحيح، وشواهد التاريخ؛ من بلقيس، إلى الزباء التدمرية، إلى شجرة الدر، إلى بي نظير بوتو، والشيخة حسينة. هذا فيما يخصنا، أو من الملكة إليزابيث الأولى، حامية بريطانيا البروتستانتية، إلى فيكتوريا الكبيرة، إلى كاترينا القيصيرية الروسية، إلى المرأة الحديدية مارغريت ثاتشر، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

هل يعني ذلك «استنساخ» التجربة الغربية بخصوص المرأة، وإلغاء ثقافتنا الخاصة؟ أبدا، فلكل مجتمع أسلوبه، و«لكل شيخ طريقته» كما يقول أسلافنا، ولكنه يعني عدم منع المرأة من حق طبيعي لا تقف أمامه العقول ولا الأخلاق ولا المصلحة.