45 سنة.. ومناسبة نادرة

TT

منذ أيام أتممت عامي الخامس والأربعين، وهي سنة ومناسبة نادرة بالنسبة لي شخصيا، إذ أنها السنة التي وافق عمري مقاس قدمي! أجد نفسي مجبرا على مراجعة ما قد مضى، ومتأملا فيما هو آت، سواء أكان ذلك على المستوى الشخصي الخاص البحت أم على المستوى العام. شاهدت تقنيات أتت وراحت من البرقية إلى التلكس إلى الفاكس إلى البريد الإلكتروني، من الاسطوانة العريضة إلى الكاسيت ذي الثمانية أجزاء إلى السي دي، من الشريط السينمائي اليومانيك إلى الفي اتش إس إلى البتماكس وصولا للدي في دي، من طيارة نفاثة إلى أخرى أسرع من الصوت إلى ثالثة ذات طابقين، تحمل أكثر من 500 راكب، من محطة راديو بالكاد تسمع إلى فضائيات من كافة أنحاء العالم ومحطات بالمئات لكل أنواع الترفيه البريء وغير البريء، من ألعاب بسيطة للأطفال كالكيرم والبرجوان، إلى ألعاب بالفيديو بها من الدقة والتفاصيل ما يفوق الحقيقة نفسها، من صحف ورقية تبلغ زنة الواحدة منها الكيلوغرامين مليئة بالصور والإعلانات والملاحق إلى صحف إلكترونية بدون ورق، تصدر من أي مكان بلا عنوان، من زمن كانت فيه الإنفلونزا التي تأتي مرة في العام، وترقد صاحبها حتى تأخذ دورتها كاملة، والآن هناك إنفلونزا لكل مخلوق ما بين الخنازير والطيور وغيرها، من حروب وخلافات وفتن ومعارك تصل أخبارها بعد وقوعها وربما بعد انتهائها بفترة غير بسيطة، إلى حروب تنقل بأكمل تفاصيلها على الهواء مباشرة، وكأنها مناسبة غنائية أو مباراة رياضية. من أيام كان الدين وشؤونه فيها مسألة بسيطة بلا عقد ولا مبالغة، لأنها كانت عملية إيمانية بحتة لا يعلم مضمون القلوب إلا من خلقها، وصولا إلى «خبراء» في النوايا والمقاصد والقدرة الخارقة على الاطلاع على القلب ومداخله، وبالتالي الحكم على المراد. من زمن كان لكل شيء «وقته» وأوانه، كان للوقت قيمة ومقدرة وصولا إلى الإكسبرس في كل شيء في الغذاء السريع والتعليم السريع والعلاج السريع والزعامة السريعة والمشيخة السريعة والثراء السريع.

ليس المجال هنا للمقارنة بين زمن وآخر وفترة وأخرى، ولا المفاضلة بين عصرين، فالتغيير سنة ثابتة وبقاء الحال من المحال، كما هو معروف، ولكن هل استفاد العرب من فرص التغيير وكانوا فاعلين إيجابيين بها، أم أنهم خرجوا من دائرة صناعة الحدث والتأثير به وأصبحوا متفرجين و«كومبارس» درجة ثالثة؟ هناك حالة ذهنية ثابتة أصبحت أساسية في العقلية العربية معنية بالتغني على الماضي وفقدان الأمل في المستقبل، فكل الحديث عن «الزمان اللي راح» و«فات الأوان» وقليل جدا حجم التفاؤل بالغد والمستقبل «أغدا ألقاك؟ يا خوف فؤادي من غد». والماضي معروف ممكن التعلق به، وبالتالي الاعتزاز بنتاجه والتغني بمجده، والمستقبل مجهول يفضح قدرات الناس وحدود إمكانياتها في صناعته، ويتضح هذا بعنف في تقسيم دول العالم اليوم بين «فسطاطين»، دول تصنع الغد وتتوجه نحوه، ودول أخرى لا تعيش إلا في ماض بعيد سحيق لا علاقة له باليوم، وهذا كله انعكس على الفجوات الاجتماعية والفكرية المهولة بين الآباء والأبناء في حوار طرشان حزين وبائس. 45 عاما كان فيها المضحك والمبكي والمفاجئ والصادم، ولكنها الدنيا وهذه أحوالها ويبقى التدبر والتعلم مفتاحا لما هو آت.. وسلامتكم.

[email protected]