اليمن بين حكمة بلقيس.. ومنطق أولي القوة

TT

قديما جاءت رسالة سليمان إلى بلقيس «ألا تعلوا عليّ وائتوني مسلمين»، عرضت بلقيس الأمرَ على قومها/شعبها، قالوا: «نحن أولو قوة وأولو بأسٍ شديد». تلويح غير خافٍ باستخدام القوة. بلقيس لم تلتفت إلى أصوات الحرب، فضلت سياسة الجزرة، أرسلت إلى سليمان بهدية، رفضها سليمان، علمت بلقيس بالرفض، استعد «أولو القوة»، وضعوا أيديهم على الزناد، دقت طبول الحرب، لكن حكمة بلقيس انتصرت على منطق القوة ودخلت اليمن مع سليمان في السلم والإيمان.

حكمة بلقيس تمثلت في الآتي:

نزع فتيل التوتر وعدم اللجوء إلى القوة.

عرض الأمر على القوم/الشعب.

القدرة على اتخاذ القرار والتصرف بحكمة ممزوجة بحزم.

واليوم هل يمكن أن تنتصر «حكمة بلقيس» في اليمن؟ هل يمكن أن تعمَّم لدى الفرقاء السياسيين والمتصارعين على بلد متخم بالفقر والصراع والتعصب؟

هناك اليوم في اليمن «أولو قوة» يدفعون بالأمور نحو الانفجار، هناك أيادٍ كثيرة تضغط على الزناد في كل الاتجاهات، هناك أصابع تضغط على الزناد في حربها ضد «أمريكا وإسرائيل» لتقتل اليمنيين في صعدة. هناك أيادٍ أخرى خارجة من عباءة التاريخ تضغط على الزناد لتقتل اليمنيين مع بعض الأبرياء من السياح في صنعاء ومأرب وغيرهما ضمن حربها المقدسة ضد «التحالف الصليبي اليهودي» وأعوانه في جزيرة العرب.

أيادٍ أخرى تضغط على الزناد وتصوبه حينا ضد المنشآت الحكومية وأفراد الجيش والأمن، وحينا ضد السياح الأجانب، فإذا لم تجد من تسدد نحوه الرصاص صوبته إلى نحورها في ثارات قبلية ذات صلة بداحس والغبراء.

هناك أيضا من يتحفز اليوم للضغط على الزناد في الحبيلين والضالع والمكلا لطرد «المحتلين الشماليين» وتحقيق «الاستقلال الثاني» مع أنهم لا يريدون الرجوع إلى اسم الجنوب المستقل، بل يتجاوزونه إلى تسمية «الجنوب العربي» وهي تسمية بريطانية «رجعية» بامتياز.

نقطة مهمة في هذا الصدد: هناك أيادٍ يمنية يهمها أن تبقى الأيادي على الزناد في كل مكان في اليمن، لأنها تقتات على الرصاص وتعيش على الحروب، هناك من يريد المزيد من الجبهات من أجل المزيد من الامتيازات والأموال المتدفقة من أجل حسم المعركة التي لن تُحسم، لسبب بسيط هو أن حسمها يعني انقطاع تدفق الأموال التي تُصرف لحسمها.

بتعبير آخر يحاول منطق «أولي القوة» إشعال حرب طائفية أخرى في صعدة، كما يحاول هذا المنطق في الوقت نفسه مواجهة النزعة الطائفية بالقوة. بالقوة يحاول هذا المنطق فرض الانفصال، وبها أيضا يريد أن يقضي على نزعات الانفصال في دائرة مغلقة لا تنفتح إلا على مزيد من حروب أولي القوة والبأس الشديد.

«أولو القوة» اليوم يسعون إلى «ترييف» الحضَر و«قَبْيَلة» المدينة وتوسيع الاتجار بالسلاح، وتحويل الأحزاب السياسية إلى مجموعة من القبائل ذات المشيخات الدائمة التي تبقي في مكانها رغم كل المؤتمرات العامة لهذه المجاميع من القبائل السياسية في ديمقراطية عجيبة لم يكن لملكة سبأ علم بها.

منطق «أولي القوة» للأسف الشديد سائد اليوم في كل شريحة من شرائح المجتمع اليمني الذي يبدو أنه يتجه من المدينة إلى القبيلة ومن الوطن إلى الطائفة ومن الكلمة إلى الرصاصة في هرولة محمومة نحو الهلاك.

هذا المنطق سائد عند بعض قيادات «الحراك الجنوبي» في سعي حثيث للانفصال وإشعال حرب أخرى، ليس من أجل المواطن الجنوبي كما يقولون وإنما من أجل تحقيق أحلامهم بالعودة إلى كراسي الحكم باسم هذا المواطن المغلوب على أمره شمالا وجنوبا. هذا المواطن الذي جربهم ما يزيد على عشرين عاما، والذي هلل للوحدة التي رآها باب خلاصه من شمولية الحزب الواحد وهيمنته.

وفي المقابل فإن منطق أولي القوة سائد لدي شريحة واسعة من المتنفذين الفاسدين الذين شوّهوا الوجه الجميل للوحدة اليمنية في نظر طائفة من اليمنيين، وأعطوا بعض قيادات الحراك مبررات الدعوة إلى الانفصال. أصحاب هذا المنطق هم الذين يدقون طبول الحرب اليوم، ليس من أجل الدفاع عن الوحدة اليمنية التي أسهموا في تشويه صورتها، وإنما من أجل الدفاع عن امتيازاتهم التي أخذوها على حساب المواطن اليمني المغلوب على أمره في عدن وصنعاء.

آن الأوان ـ إذن ـ لتطبيق مبادئ بلقيس المذكورة، وأهمها ـ بالإضافة إلى نزع فتيل التوتر ـ إشراك «قوم بلقيس» في الأمر ومشاورتهم فيه بالانحياز التام إلى قيم الديمقراطية، لأن الديمقراطية ـ في تقديري ـ هي التي جعلت فترة بلقيس واحدة من أزهى فترات التأريخ اليمني القديم، وهي التي أنقذت اليمن من وطأة جيش سليمان من الجن والإنس والطير، وأتاحت الفرصة لفكرة سليمان بدلا من جيشه لدخول البلاد.

ترى هل ستنتصر «حكمة بلقيس» على منطق «أولي القوة»، أم أن قدَر «سبأ» أن يأتي علي مسكنهم «سيل العرم» يهدم السد ويمزقهم كل ممزق؟