زيارة أخرى للمبادرة العربية

TT

أيا ما كانت نتائج الجولة المقبلة من المشاورات التي ستجرى في واشنطن فيما يخص الصراع العربي ـ الإسرائيلي، أو ما سوف تنتهي إليه الحوارات الأميركية مع دمشق وطهران، أو ما تصل له قنوات علنية وسرية عبر البحر المتوسط والمحيط الأطلنطي، أو المدى الذي تصل إليه رسالة أوباما من القاهرة إلى العالم الإسلامي، فإن المنطقة كلها سوف تشهد جولة جديدة في سياسات الشرق الأوسط قد تتمحور حول علاقات العرب وإسرائيل، ولكنها بالتأكيد سوف تذهب إلى ما هو أبعد في محاولة لترتيب الأوضاع في المنطقة.

ومحاولات ترتيب الأوضاع في الشرق الأوسط ليست أبدا جديدة، بل إنه يمكن القول إن هذه المحاولات لم تتوقف منذ بداية القرن العشرين، ولأن المنطقة لم تستقر قط على حال فقد كان هناك دائما من هو على استعداد للمحاولة سواء من داخل المنطقة أو من خارجها، وسواء كان ذلك بالقوة المسلحة أو بالمفاوضات. وبشكل ما فإن المنطقة غير المستقرة في معظم الأحوال توجد فيها نزعة إلى طلب الترتيب، بحيث ما لم تكن هناك محاولات سلمية لتحقيق هذا الهدف، فإن المرجح دائما هو أن السعي سوف يكون باستخدام السلاح. ومنذ وصلت مفاوضات السلام في محادثات كامب ديفيد الثانية في صيف عام 2000 تحت إشراف من إدارة الرئيس بيل كلينتون إلى طريق مسدود انفجر العنف في المنطقة في شكل الانتفاضة الفلسطينية حتى عام 2004، ولم يمض عامان حتى انفجر مرة أخرى فيما عرف بحرب إسرائيل مع حزب الله في صيف عام 2006، ولم يمض عامان آخران وقبل انتهاء عام 2008 كانت حرب إسرائيل مع منظمة حماس في غزة. ولم يكن عنف الشرق الأوسط مرتكزا فقط على الساحة الفلسطينية وتخومها، بل كان ممتدا شرقا حتى وصل إلى بالي في إندونيسيا على سواحل المحيط الهادي وغربا حتى وصل إلى نيويورك وواشنطن على شواطئ المحيط الأطلنطي. وكما كان الحال في كل الحروب كان مزيج العنف مختلطا في مسارح عمليات متنوعة فكان فيها الحروب الحديثة بتشكيلات مقاتلة لدول، كما كان فيها عمليات انتحارية كان جسد الإنسان فيها هو السلاح. ووسط الكر والفر، والتدخلات الدولية للولايات المتحدة وحلفائها في حلف الأطلنطي، تحركت إيران وتركيا في دوائر للمصالح تتحالف وتتخاصم، وتستخدم النار والزبد والشعار في حزمة واحدة.

وبدون الدخول في كثير من التفاصيل عن السنوات السابقة فإنها انتهت دون نصر لأحد، سقطت نظم سياسية بأكملها نعم، ولكن نظما بديلة لم تقم، ومع معارك الأمن والجغرافيا السياسية المعروفة طوال التاريخ عادت المنطقة إلى الأشكال البدائية للعنف فجرى تحالف عجيب بين الجريمة المنظمة والقرصنة والإرهاب، وكان «النظام» الوحيد الذي تم الحصول عليه هو الفوضى، والدول الوحيدة التي ولدت في خضم الحديد والنار هي دول فاشلة أو على وشك الدخول في مرحلة مضنية من الفشل. وما عليك إلا أن تنظر إلى الصومال والسودان واليمن والعراق حتى يظهر لك وجه المنطقة وحاجتها الملحة إلى الاستقرار، وهي الكلمة الأخرى لإعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة، بحيث تكون أكثر استقرارا وتوازنا.

وهكذا نكون في مرحلة جديدة ليس فقط لأن باراك أوباما حل محل جورج بوش، ولكن لأن نتائج المرحلة السابقة كلها منذرة، حيث نيرانها اللافحة تلهب وجه حتى أكثر الدول استقرارا، وقلاقلها المتعاظمة تثير شهية كل الطامعين أو اليائسين لا فرق لأن بينهم خيطا رفيعا لا يظهره ضياء فجر ولا مصباح ظلمة. ومهما بحثت وفتشت فإنك لن تجد على طاولة المنطقة مشروعا بناء لإعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة قدر المبادرة العربية، وليس صدفة أن الرئيس الأميركي تلقفها لأنه ببساطة لا يوجد غيرها من حيث الشمول. فرغم أن الجوانب الإجرائية من المبادرة كلها تخص الصراع العربي ـ الإسرائيلي، فإن فلسفة المبادرة كلها تخص الشرق الأوسط، حيث إن الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة، وإقامة الدولة الفلسطينية والمستقلة، والحل العادل لقضية اللاجئين، كل ذلك سوف يقدم «الأمن لكل دول المنطقة»، وفوق ذلك تقدم للأجيال القادمة من الإسرائيليين والعرب «الأمن والاستقرار والرخاء». وإذا أخذنا مأخذ الجد ما قاله باراك أوباما من أنه يتوقع أن تقوم الأطراف المختلفة بما يجب عليها القيام حتى يقوم السلام في المنطقة، فإن أول ما هو مطلوب من العالم العربي فهو السعي من أجل تطبيق المبادرة العربية.

المعضلة هنا هو أنه منذ طرح المبادرة العربية في قمة بيروت ثم بعد إعادة طرحها في قمة الرياض فإنها عانت من أمرين: أولهما أنها جاءت في الحالتين عندما كانت المنطقة لا تزال تعيش مرحلة ترتيب أوضاعها من خلال القوة المسلحة ومن ثم فإن مبادرات السلام تصبح صيحة مثالية في واقع عنيف يسعى فيه كل طرف لإخضاع الطرف الآخر. ولم تكن هناك صدفة أن حركة حماس قامت بعملية ناتانيا العسكرية قبل أن يجف حبر المبادرة وبعد ساعات قام شارون بما كان يسعى له من الأصل وهو اجتياح الضفة الغربية كلها وإعادة احتلالها وتقويض كل ما حققته حركة التحرر الوطني الفلسطينية من اتفاقيات أسلو. وثانيها أن المبادرة جاءت في الأساس موجهة إلى إسرائيل ومن بعدها دول المنطقة، ومع ذلك فقد تقرر فيها تشكيل لجنة من الدول العربية يقودها السكرتير العام لجامعة الدول العربية وتذهب إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن والولايات المتحدة والاتحاد الروسي والدول الإسلامية والاتحاد الأوروبي. ومعنى ذلك في ذلك الوقت أن الدول العربية قد قررت التوجه إلى كل الأطراف الدولية ما عدا الأطراف المعنية مباشرة بالمبادرة، وهو ما حاولت قمة الرياض معالجته من خلال وفد عربي مكون من وزراء خارجية الدول العربية الموقعة على اتفاقيات سلام مع إسرائيل بالفعل لكي تشرح المبادرة.

وكما هو معلوم فإن الدول العربية لم تتلق ردا حتى الآن على المبادرة العربية، ولا يوجد حتى الآن ما يشير إلى أن إسرائيل بصدد إعداد رد، بل إن ما يبدو من الحكومة الإسرائيلية الراهنة أن لديها خططا لا تنضب لصرف الأنظار عن المبادرة العربية من خلال الحديث عن سلام اقتصادي مرة، والتأكيد على الخطر الإيراني مرة أخرى، واختبار المبادرة بالتطبيع مرة ثالثة وهي تعلم تماما أن ذلك كاف لكي يهرب العرب من الساحة حتى لا تحصل إسرائيل على تطبيع «مجاني» فتكون النتيجة هي حصولها بالمجان أيضا على احتلال مستمر، واستيطان يتمدد، بدون ثمن على الإطلاق. وكل ذلك كان ممكنا أن يستدل منه على نمط من أنماط التفاعلات العربية الإسرائيلية الذائعة خلال العقود الماضية، ولكن الجديد هذه المرة أن باراك أوباما قدم مجموعة من الأدلة على استعداده للمضي قدما على طريق السلام، ومن ثم ترتيب الأوضاع في المنطقة بالمفاوضات هذه المرة. وحتى يعطي المقدمة والنغمة الصحيحة فإن التشاور من أجل التفاوض يجري بينما يوجه رسالة للعالم الإسلامي، ورغم أنه متمسك بأمن إسرائيل فإنه متمسك أيضا بحل الدولتين سواء قبل أو لم يقبل نتنياهو، وهو رافض للمستوطنات دون لف أو دوران، وهو ساع لعقد اتفاقيات للسلام وليس لعملية سلام تمتد حتى تنشب الحرب المقبلة، وهو يطلب من إسرائيل لأول مرة أن توقع على اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية، وهو يعلن أن كل طرف عليه أن يقوم بما يعرف أن عليه القيام به وهو ما ينطبق على إسرائيل بأن تقوم بالانسحاب من الأراضي العربية المحتلة.

لذلك كله فإن الدول العربية المعنية تحتاج لزيارة أخرى للمبادرة العربية ليس من أجل تعديلها وإنما البحث في أنجع الطرق من أجل تنفيذها. فإذا كانت هناك محاولة أميركية جديدة لإعادة ترتيب المنطقة فلماذا يكون ذلك نتيجة مشروع أميركي أو إيراني أو تركي لا نعرف أصله وفصله، ولا يكون تتويجا لمشروع عربي لم يبق غيره بعد دماء سالت وأرواح زهقت، ولم ينجح أحد في حل معضلة واحدة من معضلات المنطقة بالقوة العسكرية!.