الإيمان الأحمر.. والإيمان الأزرق

TT

هل «أميركا المسيحية» تحتضر؟. لو كان هذا صحيحا، فهل لنا أن نحزن أم نبتهج؟. أثيرت هذا التساؤلات أخيرا في قصة غلاف كتبها محرر مجلة «نيوزويك» جون ماكهام، وفتح الأبواب على مصراعيها أمام سجال ساخن ومتواصل (ملاحظة: أسهم من حين إلى آخر في مجلة «نيوزويك»). وتلقى المقال وابل من الانتقادات، وجهها محافظون متدينون يرون أنه يظهر التحيز ضد الدين الذي يتجلى في وسائل الإعلام العامة، ويظهر رد الفعل هذا شيئاً مختلفا، وهو أنه من السهل أن تقرأ عنواناً، على أن تقرأ مقالا. كان غلاف «نيوزويك» الذي أعلن «أفول وسقوط أميركا المسيحية» غلافا مستفزا على الطريقة النمطية للمجلات الإخبارية. وأوضح المقال الجاد الذي تلا ذلك أن نسبة الأميركيين الذين يقولون إنهم مسيحيون (76 في المائة) تراجعت منذ عام 1990 ـ وهذا صحيح ـ وأن نسبة الأميركيين الذين لا ينتمون إلى ديانة معينة (15 في المائة) قد ارتفعت ـ وهذا أمر لا يمكن أن ننكره ـ وأن اليمين الديني أضحى أقل تأثيرا وأقل تحقيقا للانتصارات على مدى الأعوام العديدة الماضية، وأن هذا شيء جيد بالنسبة للدين بصورة عامة، حيث يمكن أن يصبح ضعيفا، أو يتم تشويهه إذا عُرّف بأنه لصيق الصلة بأي أيديولوجية، أو نظام اجتماعي، أو دولة. وفي الواقع، فإن اليمين الديني، على الأقل في تعبيراته البسيطة نسبيا، يعد ظاهرة لا مستقبل لها. ويميل جيل أكثر شبابا من الإنجيليين وقياداتهم، في الوقت الذي يبقون فيه بصورة عامة محافظين من الناحية الثقافية، إلى النظر إلى نموذج اليمين المتدين للارتباط المجتمعي، على أنه ضيق للغاية في التركيز، وسلبي جدا في الأسلوب.

وأصبحت اللغة الفضفاضة عن بناء أو إعادة بناء «أميركا مسيحية» نوعا من الهرطقة، أو خطأ تاريخيا، أو حمقا. وهي تعد هرطقة، لأنه لا يمكن القول بأن أي مملكة بشرية، مهما كانت روعتها، هي مملكة الرب. وتعد خطأ تاريخيا، لأن الحكومة الفيدرالية الأميركية كانت غير طائفية منذ نشأتها، وقوانينها دلت عليها القيم الدينية، دون ترسيخ تقليد ديني رسمي معين. وتُعدّ حمقا، لأن دمج المعتقد مع الأيديولوجية يمكن أن يسيّس، وأن يؤمم، ومن ثم يضعف رونق المعتقد نفسه.

ولذا، كانت حجج ماكهام دقيقة وحكيمة، ولكنها غير كاملة. ويصف جون غرين، وهو خبير في استطلاعات الرأي في «منتدى بيو للأديان والحياة العامة»، ما خلصت إليه «نيوزويك» في طرق عدة:

أولا: ظهور مَنْ لا ينتمون دينيا إلى اتجاه محدد أصبح اتجاها، ولكنه اتجاه تدريجي جدا. وحسب ما أفاد به غرين، لا يوجد اختلاف حقيقي بين عامي 2000 و2009 في هذا المقياس.

ثانيا: يشير غرين إلى أن غير المنتمين دينيا ليسوا هم غير المتدينين. وبالإضافة إلى عدد من العلمانيين الصادقين (الذين يبدون غالبا لاهوتيين بصورة إيجابية في حماسهم للإرشاد)، يضم غير المنتمين أشخاصا متدينين بدرجة كبيرة، ولا يثقون في الدين المنظم، مع مواطنين شباب، أو ممن أتوا حديثا، أو ممن لم يتبنوا خيارا دينيا محددا بعد.

ثالثا: يلاحظ غرين أن هذه المجموعة «أكبر، ولكنها غير ثابتة». وفي الوقت الذي يترك فيه البعض تقاليدهم الدينية بوعي، فإن الآخرين الذين نشأوا دون تقليد ديني سوف يتبنون تقليدا في النهاية. العقيدة في أميركا شيء مائع.

رابعا: يرى غرين أن «نمو غير المنتمين لم يأت على حساب الإنجيليين، الذين تستمر أعدادهم في الازدياد، ولكنه أتى على حساب البروتستانت والكاثوليك البيض»، ولا يعد تراجع اتجاه البروتستانت تطورا أحب أن أثني عليه، لأنه دائما ما كان يمثل اتجاه البروتستانت أفضل ما في المثالية الليبرالية، خاصة خلال حقبة الحقوق المدنية. ولكن من الأسباب وراء تراجع الاتجاه، تشخيصات ماكهام المرضية عن اليمين. لقد أصبح الاتجاه باهتا وفاقدا للحيوية، ومتناقصا، في الوقت الذي يصبح فيه انعكاسا لليبرالية حديثة: قولبة مملكة الرب، كي تناسب الأيديولوجية السياسية.

خامسا: يحذر غرين من أن استطلاع الرأي يمكن ألا يعكس الأعداد المتغيرة لغير المنتمين، ولكن الضغوط المتغيرة في المجتمع «دائما ما كانت هناك مشاعر عدم احترام ضد غير المنتمين دينيا، وقد تراجع ذلك». عندما يقام الاستطلاع، ربما يصبح الناس أكثر أمانة. ويخلص غرين إلى أن نيوزويك «ذكرت نصف القصة». «هناك مواطنون معينون اتجهوا ناحية اليسار على أسس ثقافية.. ولكن لا يمكن إهمال الجانب الآخر، وهو نمو المؤمنين المحافظين بدرجة أكبر، وهم الإنجيليون والكاثوليك المحافظون.. ربما لا نرى تراجع أميركا المسيحية، ولكنه استقطاب على أسس دينية». وهذا الاستقطاب سبب في التعبير عن الحزن، ولكن يحذر غرين من أنه يجب علينا أن نتوخى الحرص في إلقاء اللوم. «يمكن أن يكون السبب هو نمو رد الفعل العلماني على اليمين المسيحي. ولكن في الناحية الأخرى يمكن أن يكون رد فعل اليمين المسيحي على نمو العلمانية، أو ربما يتغذى الاتجاهان على بعضهما البعض».

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ («الشرق الأوسط»)