تغير السياسات تجاه كوبا

TT

يرى العديد من العلماء «التجريبيين» أن مصطلح «علوم الاجتماع» علم يعوزه الانسجام والتكيف مع المجتمع، وأنه يتناول افتراضات يمكنك اختبارها، والتثبت منها، أو عدم إثباتها، لكن علم الاجتماع هو أكثر من ملاحظة يمكن التباهي بشأنها. ويرى علماء الاجتماع أن الاقتصاديين ليسوا أكثر من متغطرسين، وأن علم الاقتصاد بأرقامه ورسومه البيانية ومنحنياته، لديه على الأقل مقومات وأدوات البحث العلمي. إنه ليس مجرد ارتداء صندل، والقيام برحلة لتدوين بعض الملاحظات عن بعض القبائل.

وفي غضون ذلك، يعلن علم السياسة عن تباهيه بذاته. ولو أنه علم بحق، لما كان بحاجة إلى التحدث بصوت خفيض وعناد. أليس كذلك؟. مشكلة علم الاجتماع أنه يدور حول الأفراد الذين يميلون نحو التقلب، في حين يتناول علم السياسة الأفراد في المجموعات الكبيرة، والأحزاب والمجتمعات والأمم. وإذا ما أردت اختبار افتراضية، لنقل على سبيل المثال، العلاقة بين الديمقراطية والتجارة الحرة، فلن تستطيع أن تؤلف مجموعة من الدول لإجراء التجربة عليها، بل يجب عليك أن تستغل ما تجده، وستجد هناك على الدوام بعض الاستثناءات، أو التعقيد الذي يدفعك إلى الاعتراف بهزيمة ذرائعك أمام العلم.

بيد أنه خلال العقود الأربعة الماضية، لم نقم بتجربة علمية على واحد من أهم الأسئلة العملية التي واجهها العالم، الذي طغى على السياسات الأميركية، بصورة متقطعة، لما يقرب من قرن. وقد قمنا بإجراء هذه التجربة، مستخدمين تكاليف ضخمة، لكننا أهملنا النتائج بصورة مخجلة. وكان التساؤل المطروح هو: ما هي أفضل الطرق بالنسبة للدول الحرة لهزيمة الأنظمة الشمولية بصورة عامة، والشيوعية بصورة خاصة؟.

لم تكن الشيوعية متسقة على الدوام، فقد كانت في أوجها متعددة السمات، فقد كانت هناك شيوعية تيتو في يوغوسلافيا، التي أبقت على قدم بها خارج الستار الحديدي، وتحولت لأن تكون واحدة من بين 150 دولة، لا يجمعها سوى تنافرها الشديد مع بعضها البعض. وكانت هناك أيضا الصين، موضوع أكبر خيالات جنون الاضطهاد للأميركيين خلال الحرب الباردة ، التي هي الآن موضع جنون اضطهاد من النوع المعاكس تماما. وهناك ألبانيا، ذلك الثقب الأسود الذي لا يمكن أن تتسرب من خلاله أية معلومات. وهناك النسخة الشيوعية ذات النكهة اللاتينية الخيالية التي كانت ثورة في حد ذاتها، أكثر منها أداة لتأميم وسائل الإنتاج.

وخلال الفترة التي تحولت فيها روسيا إلى الشيوعية، بداية من عام 1917 وحتى عام 1989 مع سقوط حائط برلين، حاولت الولايات المتحدة استخدام عدد مختلف من السياسات تجاه تلك الأنماط المختلفة من الدول الشيوعية، فأحيانا ما تكون عدوانية، وأحيانا ما تكون ودودة. وقد عقدنا عددًا من القمم، كما جربنا أساليب الحظر. وقمنا بشن بعض الحروب السرية على أميركا اللاتينية، وقمنا بزيارات سرية إلى الصين، ومزقنا مجتمعنا بالحرب مع فيتنام وكمبوديا التي يمكن أن تفسد طاولة عشائنا. (وهو أشبه بالمناقشات التي دارت خلال الحرب الأهلية).

وحتى اليوم، هناك دولة شيوعية واحدة، لا تزال الولايات المتحدة تتبنى موقفا معاديا لها، وحكومة شيوعية واحدة لم نفكر يوما في خفض التوتر معها. دولة شيوعية واحدة غزوناها، دون مبرر بسيط، ولو حتى بدعوة من حكومة شرعية. دولة شيوعية واحدة لم نجرب معها القوة الإغرائية للرأسمالية، وبدلا من ذلك.. قمنا بفرض حظر تجاري شامل. وبعد 20 عاما من انهيار الشيوعية في كل مكان تقريبا، لا تزال الحكومة الشيوعية تحيا في ذات الدولة، دون خضوع لعملية إصلاح، أو رغبة في الاعتذار.

إذا ما كان هناك نتيجة يمكن استخلاصها باليقين العلمي حول أي تساؤل في مجال العلوم السياسة (أو ربما ينتمي إلى العلاقات الدولية، ذلك القسم الأكاديمي الأكثر غموضا)، فمن المؤكد أن سياسة الولايات المتحدة تجاه كوبا لم تنجح. هل يمكن لأحد أن ينكر ذلك؟. كانت مقولة «تمهلوا، انتظروا مزيدا من الوقت. لقد أوشك على الرحيل» هي المقولة الأكثر انتشارا خلال الأعوام الماضية. والآن، ورغم رحيل فيدل كاسترو، إلا أن شيئا لم يتغير، ما عدا أن حظرنا بات يبدو أكثر سخافة، وغير مجدٍ أكثر من ذي قبل. وسوف تساعد التغيرات الأخيرة التي أعلنها الرئيس أوباما، لكن إلغاء الحظر، كفشل مؤكد، سيساعد بصورة أكبر. لا شك في أن الشيوعية على وشك الانتهاء في كوبا، وربما يحين ذلك في وقت قريب جدا، فالأيام التي كان يقوم فيها الجنود الكوبيون بإثارة القلاقل، وتمتع روسيا بملايين الروبلات السوفيتية في صورة مساعدات قد ولت. ولكن، لِمَ الانتظار؟.. إن سياستنا تجاه كوبا لا تزال رهينة الأقلية العرقية المتحمسة (في الواقع أقلية الأقلية) التي تجعل من اللوبي الإسرائيلي دمية للرئيس الجديد جديرة بالحب، ولا تمثل تهديدا.

وكما أشار الكثيرون.. فقد فزنا في حرب فيتنام بشكل ما، إنْ لم يكن من وجهين في حقيقة الأمر.. فهرب الفيتناميين من الشيوعية كان مكونا جديدا في مزيجنا العرقي. وفي ذات الوقت، فإن فيتنام تعتنق الرأسمالية بأقصى ما تستطيع. ولقد أثرت الولايات المتحدة من الطاقات الكوبية التي وصلت إلى هنا منذ ثورة كاسترو. إذًا، فلماذا نستمر في رفض منح الكوبيين العالقين في جزيرة كاسترو فرصة التمتع بثمار الرأسمالية أيضا؟.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ («الشرق الأوسط»)