الجزائر: مهرجان الشباب والبصمات الغريبة

TT

لم اكن من المتحمسين لانعقاد المهرجان الدولي الخامس عشر للشباب والطلبة في الجزائر، رغم انه الاول الذي يعقد في عاصمة عربية منذ ولادة الفكرة في الاربعينات، حيث انتزعت الجزائر تنظيم المهرجان الذي كان حكرا على دول الكتلة الاشتراكية.

وكان من اسباب تحفظي ان هناك اسبقيات، من بينها ضرورة التركيز على ازالة الانقاض المادية والنفسية المترتبة على مسيرات الخراب التي عرفتها الجزائر، وربما كان هذا في حد ذاته سبب اصرار الشبيبة الجزائرية على اقامة المهرجان، ليكون عرسا كبيرا تتلاقى فيه النفوس قبل الاجسام، ويكون جسر العودة نحو الحياة الطبيعية للبلاد التي اثخنتها الجراح، وبهذا يصبح المهرجان اكبر من مجرد مهرجان.

وكانت ضغوط اوروبية قد مورست على الجزائر لقبول مشاركة مجموعة اسرائيلية، او على الاقل.. للسماح لمجموعة من «راكاح» ترفع شعار السلام بالدخول الى الجزائر، وهو ما يعني بطبيعة الحال ان يرفع العلم الاسرائيلي مع الاعلام التي ترفرف فوق ملعب الخامس من يوليو، وهو التاريخ الذي يرمز ليوم الاستقلال.

ورفضت الجزائر كل الضغوط، وقد يبدو ان ارتفاع العلم العدواني كان اكثر مما يمكن ان يتحمله اي جزائري يتابع كل يوم اخبار قوافل شهداء فلسطين، وله في اديمها رفات شهداء وشهداء، لكن ذلك لم يكن كل شيء.

فقد كان اليهود قديما جزءا من النسيج البشري الجزائري، وظلوا كذلك الى عام 1870، عندما اختاروا الجنسية الفرنسية فوضعوا انفسهم بذلك في صف المستعمر ضد الشعب.

ورفضهم الجزائريون بمختلف اتجاهاتهم الوطنية، وما زال المواطن يستعمل تعبير «حاشاك» عندما يتناول اليهودي في حديثه، ولم يكن ذلك تعصبا ضد اليهود بقدر ما كان ادانة للجحود الذي طبع تصرفاتهم تجاه المسلمين بشكل عام.

وتضاءل عدد اليهود في الجزائر الى حد الانقراض تقريبا بعد الاستقلال. وربما كان عليّ ان اذكر هنا بأن المسيحية الجزائرية انقرضت تماما في العهود الاولى للمسيحية، حيث كان المذهب المسيحي السائد هو الدوناتية، تماما كالقبطية في مصر، وهو مذهب ديني شعبي يدافع عن الوطن ويرعى حرمته.

لكن اوغستين (وهو راهب روماني الاصل جزائري المولد) حارب الدوناتية لمصلحة الكنيسة الرومانية، والاحتلال الروماني واللغة اللاتينية.

وتعرض الدوناتيون لارهاب بشع قضى على كثيرين منهم بينما وجد الباقون في الاسلام ملجأ وملاذا.

والغريب ان كراهية اسرائيل اتسمت بتعامل عقلاني جدير بالتقدير، وكمثال على ذلك اسوق حادثتين متكاملتين، كانت الاولى عندما اعاد الرئيس هواري بومدين طائرة «العال» الاسرائيلية التي خطفت الى الجزائر، لمجرد ان الجزائر تدين ترويع المدنيين، وسمعت الجزائر آنذاك من ثوريي المقاهي ما سمعته من اتهامات وشجب وتنديد. والحادثة الثانية كانت عندما توقفت في مطار اسرائيلي طائرة مدنية قادمة من باريس وعلى متنها الامين العام لرئاسة الجمهورية الجزائرية آنذاك، والذي كان في رحلة شهر عسل، وفاته ان يراجع خط السير، فاعتقله الاسرائيليون.

وكان العقيد جلول خطيبا من اقرب المقربين الى الرئيس بومدين، ولكن ذلك الخطأ غير المقصود كلفه مستقبله السياسي، اذ شطب اسمه الى الابد من قائمة المسؤولين السامين.

رد الفعل هذا يذكر برفض الشعب زيارة المغني الفرنسي اليهودي أنريكو ماسياس الى الجزائر، لأنه رأى فيها شبهة تطبيع مع العدو.

كان المغني، جزائري المولد، قد انحنى مقبلا يد بوتفليقة في حفل عام خلال زياراته الى فرنسا، ليقول له والدموع تبلل وجهه، بأنه اشتاق لزيارة مسقط رأسه، ولم يكن امام الرئيس إلا ان يرحب به، لكن الشعب رفض الزيارة رغم تفهمه لالتزامات الرئيس، وقال كثيرون اننا قد ننسى لماسياس موقفه ضد الجزائر خلال الدورة ولكننا لا ننسى انه رقص امام السفارة الاسرائيلية في باريس احتفالا بهزيمة 1967.

وكانت مصافحة الرئيس الجزائري لايهود باراك في الرباط على هامش تشييع جنازة الملك الحسن الثاني فرصة لبعض من كانوا يتصورون ان التطبيع هو قاب قوسين او أدنى، لكن رد فعل الرئيس على مبادرة بعض العاملين في صحف جزائرية خاصة بزيارة اسرائيل القمت أولئك حجرا، فقد وصف الزيارة بالخيانة.

وتواصلت المحاولات، وكان آخرها ما عشته شخصيا في الاسابيع الاخيرة من عملي الوزاري، فقد تقدم لي بعض الجزائريين من اتجاه معين بفكرة زيارة سفينة السلام، حملت اسم أوديسا 2001، وكانت في الاصل باخرة حربية رومانية، خطط لها ان تجول في عدد من موانئ البحر الابيض المتوسط، ومن بينها عدة موانئ جزائرية، وعلى متنها فرق فنية ومسرحية وغنائية.. وربما.. ما لذ وطاب مما نعرف وتعرفون.

وكان توقيت وصولها الى الجزائر هو على وجه التحديد.. في الخامس من يوليو.. واثار انتباهي انني لم اتلق اجابات واضحة عن جنسية كل الركاب، وعما اذا كانت الباخرة ستتوقف في موانئ اسرائيلية بعد ذلك.

وهكذا رفضت اعطاء أي تسهيلات للباخرة قبل ان اتلقى ما يؤكد عدم وجود مجموعات اسرائيلية على متنها، وهوجمت من صحف زار بعض صحافييها اسرائيل، ثم رفضت وصول الباخرة قبل 7 يوليو، أي قبل ان نكون قد استكملنا الاحتفال بالاستقلال. وأجري تعديل وزاري، ولكن تغيير الاشخاص في الجزائر لا يؤدي الى تغيير الثوابت، وهكذا لم يكن زميلي الذي تولى الوزارة بعدي أقل مني وطنية.

وتأكد في ما بعد انه كان هناك بالفعل اسرائيليون، ظلوا في مرسيليا بفرنسا، ثم غادروها بالطائرة الى البلد الذي رست فيه السفينة بعد مغادرة الجزائر.

وتعود محاولات التطبيع مع تنظيم مهرجان الشباب، وتمارس ضغوط اوروبية على الجزائر لتقبل بمشاركة وفود اسرائيلية، وأمام الرفض القاطع انطلقت ضدها حملة مسعورة من اوساط كثيرة، خاصة تلك التي تنتمي للأممية الاشتراكية، ومورست ضغوط على وفود كثيرة لكي تقاطع المهرجان، قيل ان منها وفودا شقيقة.

وكان اكثر الامور اثارة للتساؤل تشنج متحدثين باسم التجمعات السكانية (العروش) في بعض مناطق القبائل الكبرى (واستعمال اسم «الاعيان» خطأ، حيث ان الاعيان يمثلون صفوة مجتمع ما، علما او حكمة او مالا او رصيدا من العمر، مما لا ينطبق على جلّ من رأيناهم، يستفزون الدرك ويخربون المنشآت العامة)، وهو ما فهمته اغلبية المواطنين في منطقة القبائل المجاهدة، ممن لم يدركوا في البداية نسبة الباطل الكامنة في كثير من صيحات الحق المرفوعة، ثم اكتشف كثيرون ان المحرضين على التخريب هم مخلب قط لمصالح سياسية ومالية وعَقَدية ـ كَنَسية متشابكة، استفادت من وضعية الفيتو اللغوي الذي فرض لتفتيت المجتمع الجزائري، ولاقناع البعض بأن وضعيتهم أسوأ من الآخرين عبر الوطن، وهو زور وبهتان، كما استفادت من قصور السلطة في مواجهة الامور بالحكمة المطلوبة. وتأكد كل ذلك عندما اختفت المطالب الاجتماعية او الثقافية، التي ارتبطت بالاحداث الدموية، لصالح حملة ضارية، شعارها الاول والرئيسي هو افشال المهرجان الاول الرئيس، بحجة انه سيكون دعما لنظام الحكم المتسلط الجائر السفاح!!، وتوجهت مجموعات الى سفارات اجنبية تطلب دعمها وتأييدها، ومنها من لم يكن في حاجة لذلك.

وارتفعت نفس الاصوات منادية بتنظيم مسيرة تتحدى قرار منع المسيرات في العاصمة الجزائرية، وهو نداء كان من خلفياته إرغام منظمي المهرجان على التشدد في دخول الجماهير الى الملعب، في حين ان المألوف في الماضي هو الدخول المجاني للجميع. وكان الأمل ان يكون نقص عدد المتفرجين دليلا على الفشل، خصوصا ان البث التلفزيوني في يوم حار سيشجع كثيرين على البقاء في بيوتهم.

لكن امتلاء المدرجات يوم الافتتاح كان صفعة مدوية، تماما كنجاح منع المسيرة بحزم وهدوء. وساهمت بعض الصحف الجزائرية، خاصة الناطقة بالفرنسية، في التحريض على تفجير الاوضاع، لتبرر دعوات الاممية الاشتراكية لمقاطعة المهرجان، بينما وقفت الصحافة الفرنسية تتابع التطورات كالجوارح الباحثة عن الجثث.

وكان واضحا ان من الاهداف الرئيسية إجبار الرئىس على التخلي عن عملية المصالحة الوطنية الشاملة، التي ترفض اقصاء أي شريحة من ابناء الوطن، وتلتزم بالانتماء العربي الاسلامي وبثوابت الامة، او اظهاره في وضعية من لا يتحكم في الامور، وبالتالي العودة الى اسلوب عام 1992، وتنفيذ سيناريو مرحلة انتقالية جديدة، يمسك فيها بالسلطة السياسية من فشلوا في الوصول اليها عن طريق صندوق الانتخابات.

ولعلي أرى سببا آخر وراء إصرار التجمعات المناوئة للرئيس على التظاهر في العاصمة على وجه التحديد، رغم الترخيص لها بالتظاهر في ولاياتها، وهو احياء لأسطورة هدمها رفض العاصمة الجزائرية الحازم لكل مسيرة تأتي من ولايات أخرى، مما يعني رفض سيطرة منطقة بعينها على عاصمة البلاد، وهو ما تزامن مع رفض اغلبية ولايات الوطن التضامن مع قادة الاحداث، بعد مسيرة التخريب في الشهر الأسبق.

واتساءل: كيف كان يمكن ان تكون الامور لو قبلت الجزائر وجود وفد اسرائيلي في المهرجان؟ ولو تراجع الرئيس الجزائري عن فكرة المصالحة الوطنية؟

ولعل نجاح الحفل الافتتاحي للمهرجان، الذي ستحدث بعده لا محالة محاولات لافساد فعالياته يعطي للرئيس الجزائري دعما معنويا يواجه به كيد اعداء المصالحة، لكن فرصة مهمة للتضامن مع الجزائر ضاعت من بعض الاشقاء.

* وزير الاعلام والثقافة السابق في الجزائر