التصعيد الصاروخي العراقي والتلويح الأميركي المضاد.. من يهزم من؟

TT

منذ اكثر من عام وقيادة الدفاع الجوي العراقي تتحدث عن خطوات متعاقبة من النجاح في تطوير القدرات التقنية في مجالات التشويش على الصواريخ الموجهة، وتطوير صواريخ سام ارض ـ جو.

ومؤخرا، تسربت معلومات تشير الى ان فريقا مشتركا من الدفاع الجوي وهيئة التصنيع العسكري تمكن بمساعدة خبراء اجانب من زيادة المدى الافقي لصواريخ سام بنسبة 20%، وبذلك تعززت قدرة الاشتباك مع الطائرات الغربية التي تفرض تطبيق منطقتي حظر الطيران شمال العراق وجنوبه، والتي بات عليها استخدام صواريخ بعيدة المدى، فضلا عن اتخاذ عدد من الاجراءات لتفادي الاصابة بنيران الدفاع الجوي العراقي.

وقد جاءت هذه الخطوة العراقية التي صرفت عليها اموال طائلة، وبذلت من اجلها جهود كبيرة، لوضع امر للقائد العام صدر عام 1993 موضع التنفيذ، والذي قدم حوافز كبيرة لمن يسقط طائرة اميركية او بريطانية بأي ثمن، وبأي وسيلة، اعتقاداً من قمة هرم الدولة ان اسقاط طائرة سيؤدي الى لملمة الاميركيين حاجاتهم والرحيل، كما رحلت قوات المارينز من لبنان والصومال.. وهو توقع ربما يكون قد بني على مبالغة غير عادية، لأن الخليج ليس لبنان، والنفط ليس تلالاً في الصومال تضم يورانيوم طبيعياً.

وما ان نجحت عملية التطوير، حتى صدر الامر بالتصدي لطائرة اميركية ضمن الاجواء الكويتية، والتصدي لطائرة اواكس ضمن الاجواء السعودية طبقا لرواية طيارها، وكادت طائرة استطلاع استراتيجية اميركية ان تسقط بصاروخ انفجر على مقربة منها. وكانت هذه الحوادث الثلاث كافية لرن جرس الانذار.

وقبل ان يظهر اي رد فعل غربي قال طه الجزرواي (نائب رئيس الجمهورية) انهم يتوقعون تصعيدا قتاليا مع الولايات المتحدة قبل كانون الاول (ديسمبر) المقبل، وهو تقدير يمكن القبول به اذا لم تطرأ متغيرات حاسمة على الموقف، لكن وبعد ان ظهرت مشكلة الصواريخ يبدو ان الجماعة في بغداد لم تعد اعصابهم على نفس وتائر التماسك السابق، وبدأوا يطلقون تصريحات تشير الى ان موعد الضربة اخذ يقترب، وهو ما قاله الدكتور نبيل نجم وكيل وزارة الخارجية لدى زيارته الاخيرة للقاهرة. اما ممثل العراق الدائم لدى الامم المتحدة، فقال وطبقا لتعليمات وردته من بغداد: ان الضربة يمكن ان تقع في أي لحظة، تأثرا بما قالته مستشارة الرئيس الاميركي لشؤون الامن القومي، من ان الرئيس يحتفظ لنفسه بحق الرد بضربة اكثر قوة من الضربات السابقة، وانهم يدرسون ذلك مع دول حليفة وصديقة.

ترى هل تكون هناك ضربة فعلا؟ ما هو نطاقها؟ وما هي العوامل المؤثرة في تحديد المستويات؟ وفي النتيجة من يهزم من؟

تطوير الصواريخ يزعج الغرب تبدو عملية تطوير صواريخ سام ارض ـ جو من قبل الصناعات العسكرية العراقية كأنها حدث مهم، مع ان النقطة الاهم بقيت على حالها الى حد ما، وهي الامتناع عن تشغيل رادارات الكشف، تفاديا لاكتشافها من قبل الوسائل الالكترونية الغربية، وتدميرها بالصواريخ الموجهة. وهذا يعني ان الصواريخ ستوجه بطريقة بدائية، او ان يجري ابتداع طرق لتشغيل رادارات من مواقع بعيدة تعطي انذاراً لقواعد تنصب على بقع صغيرة تشكل جزرا صغيرة من كمائن الصواريخ، تمهيدا لتشغيل رادارات مواقع الاطلاق لأقصر فترة ممكنة. والعجيب ان قدرات الدفاع الجوي العراقي تراجعت بشكل لافت خلال السنوات العشر الماضية، حيث لم يتمكن من اصابة طائرة واحدة على الرغم من آلاف المحاولات للتصدي لأكثر من ثلاثين الف طلعة خلال سنتين ونصف السنة، وعشرات آلاف الطلعات نفذت خلال السنوات 1992 ـ 1998! فيما امكن اسقاط عشرات الطائرات خلال حرب الخليج الثانية.

وعلى الرغم من تواضع المتحقق، فإن عملية تطوير الصواريخ ازعجت الطرف المقابل، خصوصا الولايات المتحدة وبريطانيا، اللتين تقوم طائراتهما بفرض تطبيق منطقتي حظر الطيران، وذلك لأن التطوير يزيد فرص اصابة طائرات الدورية الجوية والاستطلاع، ويثبت توافر القاعدة العلمية في العراق لتطوير الترسانة القتالية. وهو ما يعزز الفكرة السائدة لدى الغرب عن ان غياب المفتشين الدوليين يمكن ان تترتب عليه مفاجآت قوية تؤذي الاستراتيجية الغربية وتعرض المصالح الحيوية للخطر، وان تراجع الغرب عن التزامه بمنطقتي الحظر الجوي تحت تهديد الصواريخ، يعكس صورة رمادية لمستقبل الالتزامات برمتها.

ولما كانت المشكلة الكبرى الحاكمة في جوهر التوتر تكمن في ان النظام في العراق يريد العودة الى الساحة الدولية، منتصرا، مطلق اليدين، مطالبا باستحقاقات ضاغطة على كل الآخرين، من دون تعهدات والتزامات جوهرية ملزمة، وهذا كله مرفوض بحكم الحساسية غير الاعتيادية لمنطقة الخليج من وجهة نظر الاستراتيجية الغربية، حيث المطلوب بقاء النظام في العراق مكبلا لمنع تكرار المفاجآت، وتجنب كوارث جديدة.. والمنع الجدي للتطورات التقنية للقاعدة الصناعية العراقية بما يتصل بأسلحة التدمير الشامل. فلا اتفاق ممكنا بين الطرفين، وتبقى لغة القوة ومناورات الإضعاف محركا لدوامة الازمات.

احتمالات الضربة ونطاقها ليس صحيحا استبعاد وقوع ضربة جديدة على اهداف عراقية، فالفكرة قائمة على الدوام، بوصفها جزءا اساسيا من استراتيجية الردع والإضعاف المستمر، بيد ان لكل حالة متطلباتها وظروفها، من دون ارتباط حقيقي بموقف علني، غالبا ما لا يكون جديا، لهذا الطرف او ذاك.

وهذه المرة، يرجح ان ترتبط استحقاقات الضربة بمدى مواصلة القيادة في العراق لنهجها الحالي باطلاق الصواريخ خارج الاجواء العراقية، والنطاق الدعائي لحجم التطور، واحتمالات اصابة او اسقاط طائرة غربية، وماهية المعلومات التي ستتوافر لدى المخابرات الغربية عن النشاطات السرية العراقية.

ولما كان برنامج النفط مقابل الغذاء والدواء قد صمم لتخفيف معاناة الشعب العراقي، فإن من غير المتوقع ان تكون الضربة شاملة او غير مقيدة، رغم التهديد الذي اطلقته مستشارة الامن القومي الاميركي، لذلك لا خوف على المرافق المدنية من محطات للمياه والكهرباء.. الخ. وعدا ذلك يمكن ان تأخذ الضربة الشكل التالي:

ـ شن حرب الكترونية جارفة.

ـ شن سلسلة من الغارات الجوية والصاروخية على منظومات القيادة والسيطرة للدفاع الجوي والقوة الجوية.

ـ ضرب المنشآت المرتبطة بالتصنيع العسكري، والتركيز على المواقع المتصلة بالدفاع الجوي والصواريخ ارض ـ ارض التعبوية.

ـ ضرب بعض عقد الاتصالات.

ـ ضرب عدد من المواقع الحساسة، كمقرات الرئيس والحرس الخاص.

ـ ومن المحتمل ايضا ضرب بعض المرافق النفطية التي لا علاقة لها ببرامج النفط مقابل الغذاء والدواء.

وان تنفيذ الضربة بنطاقها المشار اليه يتطلب تعزيزا للجهد الجوي المنتشر في المنطقة، وهو ما يمكن ربطه بعبور حاملة الطائرات انتربرايز لقناة السويس مؤخرا في طريقها الى الخليج.

وفي أي حال، ومن الناحية العملية، وعلى الرغم من عدم ظهور المزيد من التحليلات، فإن المتغيرات في الاستراتيجية الاميركية البريطانية لمقابلة الصواريخ العراقية، يمكن ان تأخذ طابعا شموليا، يتعدى سلسلة الاجراءات المعتادة. ومن بين ما يمكن توقعه:

ـ تقليص عدد الطلعات الجوية، لاعتبارات تكتيكية لا تعبر عن متغيرات سياسية.

ـ تغيير قواعد الاشتباك، بتنفيذ الضربات على اساس ما يتم جمعه من معلومات بصرف النظر عن الفعل التنفيذي العراقي.

ـ ممارسة ضغوط من أجل اقرار مشروع العقوبات الذكية.

ـ زيادة فرص تبني سياسة تستهدف اسقاط النظام.

من يهزم من؟

ليس منطقيا القول ان الاستراتيجية الغربية ستهزم وسيلملم الاميركيون والبريطانيون حاجاتهم ويرحلون عن المنطقة، لأن الرحيل عن منطقتي الحظر الجوي ربما يفهم سياسيا على انه بداية الرحيل الاكبر، اذا ما اتبعت استراتيجية نشطة وبعيدة الامد، تربط بين الصواريخ العراقية والعمليات التي تستهدف المصالح الغربية في المنطقة على غرار ضرب المدمرة كول. فالدولتان لديهما من التصميم والعلاقات الاستراتيجية والوسائل ما يحول دون ذلك.

وليس من الحكمة ان نتوقع قيام النظام في العراق بمراجعة سياساته وتعديل نهجه، فكل نجاح جزئي يدفعه الى الامام للتمسك بمواقفه، على الرغم من التراجعات التكتيكية التي يتبناها بين فترة واخرى، لكنه يبقى هو الطرف الاضعف في مواقف المجابهة الكبرى.

لقد ظهرت هذه المرة مؤشرات تراجع سريع من قبل النظام الحاكم في بغداد، تبلورت في نفي اطلاق صاروخ على طائرة U2 الاميركية بل على طائرة مقاتلة، وهو نفي يعكس حالة من التخفيف المتعمد.

ترى هل يتبنى القائمون على شؤون العراق سياسة بعيدة عن روح التحدي؟ وهل يتخلون عن مصطلح الاقتدار الذي لم يثبت وجوده عمليا ويجنبون العراق اضرار الضربات؟ وهل يأتون بمعادلات سياسية تتمتع بروح جديدة، ويقلعون عن الاستهانة بالطرف المقابل وقدرته على اتخاذ القرارات؟ لا، لا نعتقد ذلك.

حماية العراق ومستقبله والمحافظة على موارده لا تتم الا عن طريق الاحتكام الى العقل، وهذا يتطلب فريق عمل سياسي لا يحتاج الى تبرير ما حصل. لك الله يا عراق.