بحر أم بحيرة؟

TT

عاد الاهتمام الدولي الى منطقة بحر قزوين إثر قيام السفن الحربية الايرانية أواخر الشهر الماضي بإجبار سفينتي تنقيب تعملان لحساب شركة «بريتش بتروليوم» النفطية على مغادرة موقع عملهما لانهما تنشطان في مكان متنازع عليه ولم يتم ترسيم حدوده نهائيا.

الحادث جعل مجلة «الايكونومست» تصفه كأنه سيناريو لقيام حرب كلاسيكية بمقاييس العالم الثالث. فالدول المطلة على بحر قزوين لا تزال في حالة تكوين، وأوضاع قياداتها تتراوح ما بين الضعف والمرض والعنف... والجنون. وتتمتع دولتان من الخمس بقدرات عسكرية عالية، كما توجد مصالح غربية هائلة تتثمل في التزامات من شركات غربية بمليارات الدولارات للاستثمار في الاحتياطيات النفطية الهائلة التي يعتقد ان المنطقة تتمتع بها وتقدر ما بين 70 الى 200 مليار برميل.

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق قبل اكثر من عقد من الزمان برزت ثلاث دول اضافية في منطقة بحر قزوين مطلة عليه، هي: اذربيجان، وتركمانستان وكازاخستان. ومع العديد من القضايا التي اطلت مع هذا الوضع الجديد، الا ان موضوع ترسيم الحدود البحرية بين الدول الخمس اصبح موضوع جدال خاصة والثروة النفطية الهائلة التي يحتوي عليها قاع البحر اصبحت عنصر تنافس كونها اكبر منطقة خارج الدول النفطية في أوبك او منطقة الشرق الأوسط تحديدا، تملك احتياطيات، يمكن ان توفر طاقة نفطية اضافية لمقابلة احتياجات العالم المتنامية.

الخلاف الرئيسي تركز في كيفية تقسيم بحر قزوين، وهل يكون ذلك على اساس اعتباره بحرا، وبالتالي تمد كل دولة حدودها الى المياه الدولية وفق القانون الدولي، وهو الحل الذي تفضله اذربيجان وكازاخستان، ام باعتباره بحيرة... وبالتالي يتم تقسيمه بالتساوي بين الدول المطلة عليه ويكون نصيب كل منها 20 في المائة، بدلا من 14 في المائة التي سينتهي اليها الاقتراح الاول وهو الذي تسانده ايران بقوة، وإلى حد كبير روسيا، بينما تتخذ تركمانستان موقفا اقرب الى ايران ولو انها ليست مؤيدة له كلية.

الدول الغربية مدفوعة بمصالحها مع الشركات الغربية، تساند موقف اذربيجان وكازاخستان، لكنها لا تملك وجودا عسكريا يعتد به في تلك المنطقة يقارب ما تتمتع به روسيا وايران اضافة الى وجودهما الجغرافي في منطقة الصراع.

وبسبب هذا البعد الاستراتيجي فان الغرب بقيادة واشنطون، كان مصرا على ضرورة ان يتجنب خط الانابيب الذي ينقل النفط والغاز من دول بحر قزوين الى السوق العالمية، ايران وروسيا، رغم المنطق الاقتصادي والجغرافي المغاير للرغبات الامريكية.

الخلاف يتجاوز الجانب النفطي الى شجون سياسية اخرى. فروسيا ليست راضية تماما عن موقف اذربيجان مما يجري في الشيشان، وتتهم الاذريين بدعم الشيشانيين في حرب العصابات التي يشنونها ضد موسكو.

ولاذربيجان ايضا متاعبها مع ايران في ميدان آخر، حيث توجد مجموعات عرقية كبيرة في شمال ايران من اصل اذري تتطلع للحصول على بعض الحقوق الثقافية والسياسية، وهو ما تراه طهران وكأنه تشجيع لتوجهات انفصالية مدعومة من الغرب وتركيا، التي تطمح لسيادة نموذجها الثقافي في تلك المنطقة.

فالصراع ليس على الثروة النفطية فقط، وانما ايضا على اي نموذج ثقافي يمكن ان يسود بعد عقود الانغلاق السبعة امام المسلمين في تلك المنطقة بسبب الهيمنة الشيوعية على الاوضاع: هل هو النموذج الايراني بأبعاده الاسلامية والشيعية تحديدا، ام النموذج التركي الذي يقصر الاسلام على الجانب التعبدي بعيدا عن السياسة؟

كما يوجد خلاف بين اذربيجان وتركمانستان في ما يتعلق بكيفية تسوية ديون قديمة تتعلق بمبيعات للغاز الطبيعي تعود الى ما قبل تفكك الاتحاد السوفياتي في العام 1990.

اذربيجان تبدو نقطة الالتقاء والقاسم المشترك في كل هذه الخلافات، لذا ليس غريبا ان يتنامى عندها الاحساس انها مستهدفة لدرجة ان احد سفرائها السابقين في طهران اعلن ان ايران تخصص سنويا اكثر من 50 مليون دولار لاعمال التخريب ضد بلاده. الانطباع السائد عن اذربيجان انها يمكن ان تكون كويت بحر قزوين باحتياطياتها النفطية، لكن في الواقع العملي، فان هذا العام وحده شهد عدة انتكاسات. فاذا كانت «بريتش بتروليوم» قد اوقفت عملياتها الاستكشافية، فان شركة «اكسون موبيل» من جانبها اعلنت الشهر الماضي ان عملها في امتياز حقل اوقوز البحري لم تكن له نتائج مشجعة، ولم تؤكد ما كان يعتقد انه يحتوي على قرابة مائة مليون طن من الخام. وقبل ذلك في مطلع العام لم تحقق شركة «اجيب» الايطالية نجاحا يذكر ومثلها «توتال» الفرنسية، ويتوقع لـ«شيفرون» ان تصل الى نفس النتيجة في ما يتعلق بحقل غاز آبشيرون الذي كان يعتقد انه من اكبر حقول الغاز في العالم لاحتوائه على الف مليار متر مكعب من الغاز.

النقطة المضيئة في هذا كله ما تردد عن الاتجاه لعقد اول قمة لدول بحر قزوين في الخريف المقبل كما صرح الموفدون الروس، لكن مع التأني لرؤية اذا التأمت القمة كما هو مقرر لها ابتداء، وأهم من هذا ما يمكن ان تخرج به: وهل ستتمكن من ايجاد صيغة للتعاون واستغلال الخيرات الموجودة بصورة مشتركة لصالح شعوبها، أم تصبح هذه الثروات ميدان صراعات تفاقمها خلافات التكوين غير المكتمل للدول الجديدة وحالة عدم الاستقرار السياسي التي تعيشها روسيا وايران بسبب المتغيرات الداخلية وتوازنات القوى وعدم نضوج المؤسسات بالقدر الكافي.

من الجانب الآخر فان هذه الخلافات الداخلية بين الدول المطلة على بحر قزوين من ناحية وبداية بروز صورة حقيقية لحجم الاحتياطيات التي يمكن ان تكون متوفرة في هذه المنطقة من ناحية اخرى، له انعكاساته على مجمل الصناعة النفطية وتوقعاتها في جانبي الانتاج والاسعار.

فمجمل السيناريوهات المطروحة تعطي للانتاج النفطي الوارد من هذه المنطقة دورا كبيرا في تلبية الطلب المتزايد.

وفي توقعات لادارة معلومات الطاقة الامريكية عن مستقبل العرض والطلب خلال العقدين المقبلين نشر في اذار (مارس) الماضي، ان الطلب على النفط سيتصاعد الى نحو 120 مليون برميل يوميا بحلول عام 2020، وهذه الزيادة وتصل الى قرابة 43 مليون برميل يوميا، اكبر من الزيادة التي حدثت في الطلب بين عامي 1970 ـ 1999 وكانت في حدود 1، 28 مليون برميل يوميا.

وعلى خلاف ما كان عليه الحال في الفترة السابقة حيث تولت الدول المنتجة من خارج اوبك توفير القسم الاكبر من الامدادات مما ادى الى تصاعد حصتها في السوق الى نحو 60 في المائة حاليا، فان الوضع المستقبلي يجعل لاوبك القدح المعلى في توفير الامدادات المطلوبة، او ما يعادل الثلثين. اما الثلث الباقي فسيتولاه المنتجون من خارج المنظمة وعلى رأسهم دول بحر قزوين التي يتوقع لانتاجها ان يصل الى 2.8 مليون برميل يوميا بحلول عام 2005 وينمو بعدها بصورة طفيفة. وفي انتظار ترجمة هذه التوقعات على ارض الواقع تبقى كل الخيارت مفتوحة بالنسبة للصناعة النفطية وانعكاساتها السياسية والاستراتيجية.