صدام الأولويات والذرائع

TT

للمرة الأولى في تاريخ العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية يمكن إدراج لقاء بين رئيس الولايات المتحدة ورئيس الحكومة الإسرائيلية في خانة امتحان صدام الأولويات الأميركية في الشرق الأوسط بالذرائع الإسرائيلية للتهرب من السلام.

لقاءات الساعات الأربع في البيت الأبيض كشفت أن أولويات واشنطن في المنطقة بدأت تتمايز عن أولويات إسرائيل إلى حد الافتراق على الأصعدة الثلاثة الأكثر حساسية لحكومة نتنياهو: الملف النووي الإيراني والتعامل مع سورية والرؤية النهائية للتسوية السلمية.

زيارة نتنياهو لواشنطن أكدت له أن في العاصمة الأميركية إدارة جديدة ونبرة جديدة لم تألفها من قبل أذن إسرائيل. وإذا كان اللوبي الصهيوني النافذ في واشنطن (إيباك) قد تبلغها مواجهة من دعوة نائب الرئيس الأميركي، جوزيف بيدن، إسرائيل إلى وقف بناء المستوطنات وتفكيك المجمعات العشوائية والسماح للفلسطينيين بممارسة حق الانتقال والاستفادة كاملا من الفرص الاقتصادية، فقد سمعها نتنياهو مباشرة من تأكيد الرئيس أوباما الحازم بأن «الاستيطان يجب أن يتوقف»، وأن التسوية المثلى للنزاع تنبثق من حل الدولتين.

نتنياهو لم يفاجأ باللغة الأميركية الجديدة في واشنطن، فقد تبلغ من أكثر من مصدر أميركي، تصميم الرئيس أوباما على الخروج بحل نهائي للنزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي المتفاعل منذ إحدى وستين سنة. وربما لم يفاجأ أيضا من أن أوباما لم يدرج التسوية المنشودة في خانة خدمة استقرار المنطقة والحفاظ على «أمن» إسرائيل فقط، بل في خانة استعادة مصداقية الولايات المتحدة التي تدهورت إلى الحضيض في عهد جورج بوش على الصعيدين العربي والإسلامي معا ـ وهو الحافز الأبرز وراء تشديده على الانخراط الدبلوماسي الجدي مع إيران من دون وضع جدول زمني له، وإن كان قد حدد نهاية العام الحالي مهلة لتقييم التقدم المُحرَز في المفاوضات.

نتنياهو قد يكون آخر مسؤول إسرائيلي يفكر في لعب دور الشريك في سلام الشرق الأوسط، وهو الذي لم يتورع عن وصف آخر جولة تفاوض فلسطيني ـ إسرائيلي على التسوية السلمية، في العاشر من فبراير (شباط) الماضي، بأنها «مضيعة للوقت». إلا أن «صمته» حيال طرح أوباما لحل الدولتين يوحي بأنه لن «يتورط» في موقف رفض صريح لمطلب أميركي، خصوصا أنه يُطرح في مطلع ولاية رئيس لن يجد صعوبة تُذكَر في إعادة انتخابه لولاية ثانية، وعليه لن يقصر في إيجاد الأعذار للالتفاف على الطلب الأميركي دون رفضه، كما فعل إبان تفاوضه مع الرئيس الديمقراطي السابق، بيل كلينتون.

وبالفعل، كان العذر الأول ـ والمحبط ـ في مباحثاته مع أوباما محاولة إقناع الرئيس الأميركي بتقديم الخطر النووي الإيراني على أي أولوية أخرى في المنطقة على اعتبار أنه بقدر ما يوسع نطاق المخاطر المحدقة بإسرائيل.. يُبعِد عنها استحقاق الدولتين.

ولكن، لأن التسوية السلمية كانت البند الأول على جدول مباحثات أوباما معه، ولأن الرئيس الأميركي يرى في هذه المباحثات امتحانا دبلوماسيا قد يكون الأكثر صعوبة في ولايته، طرح نتنياهو عذرا آخر أقرب إلى شرط تعجيزي للسلام هو اعتراف الفلسطينيين، ليس فقط بإسرائيل الدولة المستقلة، بل بإسرائيل الدولة اليهودية، متجاهلا أنه ينكر على «حماس» حقا مماثلا.. أي مطالبتها بالاعتراف بحقها في إقامة الدولة الإسلامية في قطاع غزة وفي الضفة أيضا، إن تيسر ذلك.

مباحثات واشنطن وضعت كرة التسوية السلمية في ملعب إسرائيل. ولكن واشنطن التي أقنعت مناحيم بيغن بالسير على طريق التسوية السلمية مع مصر، قبل ثلاثين عاما، سيكون من الأسهل عليها دفع نتنياهو، اليوم، على هذا الطريق، فهي تدرك أن «عطف» الشارع الأميركي ـ والغربي عموما ـ على إسرائيل تقلص إلى أدنى مستوياته خلال السنوات القليلة الماضية، ما يسمح لها بممارسة ضغوط كان يصعب التفكير فيها في السابق، مثل التلميح بتقليص المساعدات السنوية لإسرائيل ـ وهو قرار يسهل تمريره اليوم في ظل الظروف الاقتصادية الدقيقة التي تعيشها الولايات المتحدة ـ أو استعمال «الورقة الإيرانية» كسيف ذي حدين في معادلة استقرار الشرق الأوسط.