العلاقات الدولية الجديدة في عهد بوش

TT

تقف ادارة جورج بوش، بعد مرور ستة اشهر على وصولها الى البيت الابيض، على اعتاب حقبة جديدة لعلاقات مرحلة ما بعد الحرب الباردة. لقد توفرت للادارة الحالية فرصة نادرة، اذ لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية لا توجد دولة في العالم في موقع يمكنها من تشكيل أي تحد للولايات المتحدة. علاوة على ذلك حظيت الدول الرئيسية على مزيد من المكاسب من التعاون مع الولايات المتحدة وليس في مواجهتها. أوضح دليل على ذلك علاقة الولايات المتحدة الحالية مع روسيا، اذ يمكن القول ان هذه العلاقة يمكن ان تصبح رمزا ونموذجا لهذه المرحلة الجديدة، فموافقة الرئيس فلاديمير بوتين على طرح قضية الاسلحة النوية الدفاعية للنقاش وتعديل الاتفاقيات القائمة حول الدفاع الصاروخي تظهر بوضوح انه اكثر ادراكا للواقع الدولي الناشئ.

لقد اسس كل من ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين نجاحهما من خلال صراع الموت والحياة الذي قاد الى احتلالهما لمنصبيهما في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الحاكم سابقا. فقد اعتاد كلاهما على وضع الاتحاد السوفياتي السابق كقوة عظمى مساوية في النفوذ للولايات المتحدة. كانا يعتقدان ان حالة الاضطراب وعدم الاستقرار في روسيا لا تعدو ان تكون حالة عارضة ستزول قبل استئناف روسيا لمهمتها في المسرح العالمي، لذا فقد تأرجحت مواقفهما بين لعب دور رئيس دولة عظمى في وضع مكافئ للرئيس الاميركي واللجوء الى بعض السياسات السوفياتية التقليدية القائمة على معارضة الولايات المتحدة ومنافستها في مناطق مثل الشرق الاوسط والبلقان.

وبخلاف غورباتشوف ويلتسين، فإن نجاح بوتين وتدرجه في العمل جاء من خلال تجربته في جهاز المخابرات السوفياتي السابق (كي جي بي) وفي وقت لاحق من خلال عمله كنائب لعمدة مدينة «سانت بيترسبرغ». لقد اكتسب بوتين من خلال عمله في «كي جي بي» خبرة جيدة في مجال تحليل الاوضاع الدولية، كما ان تجربة العمل كنائب العمدة اكسبته خبرة مفيدة ووضعته وجها لوجه امام مآزق اعادة بناء روسيا ما بعد الحقبة السوفياتية. وشأنه شأن غيره، يريد بوتين استعادة دور روسيا على المسرح العالمي، لكنه يدرك، على العكس من غورباشوف ويلتسين، ان هذه عملية طويلة المدى لا يمكن ان تنجز بين يوم وليلة.

وفي ما يتعلق بالتاريخ الروسي، فإن البعض يقارن بوتين بالأمير اليكساندر غورتشاكوف، الذي كان مسؤولا عن السياسة الخارجية لروسيا لمدة 25 عاما في اعقاب الكارثة الروسية في حرب القرم عام 1865 فمن خلال السياسات المتأنية القائمة على الوفاق وتجنب الأزمات، نجح غورتشاكوف في اعادة روسيا الى وضع قيادي دولي بعد سنوات من العزلة والضعف.

اعلن بوتين في اول بيانات اصدرها عندما كان رئيسا للوزراء عام 1999 وفي وقت لاحق عندما اصبح رئيسا للبلاد عام 2000، ان استعادة عظمة ونفوذ روسيا سيظل هدفا وطنيا رئيسيا واولوية مهمة. لكنه اظهر تفهما واضحا للوسائل المتاحة امامه لتحقيق هذا الهدف بالاعتراف بأنه حتى في حال تحقيق روسيا لمعدل نمو اقتصادي سنوي يصل الى 8 بالمائة (نصف المعدل الحالي) على مدى الـ 15 عاما المقبلة، فإن روسيا ستتمكن من تحقيق دخل فرد مساو لمستوى دخل الفرد السنوي الحالي في البرتغال. طبقا لما تبدو عليه الاوضاع في روسيا الآن، يبدو ان اولويات بوتين في المرحلة الراهنة تتركز في خمسة جوانب هي: اولا، انعاش الاقتصاد الروسي. ثانيا، استعادة دور روسيا كقوة عظمى، ويفضل تحقيق هذا الهدف من خلال التعاون مع الولايات المتحدة، وان دعا الأمر من خلال بناء مراكز قوى موازية. ثالثا، مكافحة ظاهرة الاصولية الاسلامية. رابعا، اقامة علاقة امنية جديدة مع اوروبا خصوصا فيما يتعلق بتوسيع حلف شمال الاطلسي (ناتو) باتجاه جمهوريات البلطيق. خامسا، التوصل الى حل لشأن قضية الدفاع الصاروخي.

هذه الاولويات توضح التوجه الوفاقي لبوتين فيما يتعلق بمسألة الدفاع الصاروخي، فالمواجهة مع الولايات المتحدة ستستنزف موارد روسيا وتشجع دون شك العودة الى توجهات ما بعد الحرب العالمية الثانية. اما التعاون، فسيصبح بالتأكيد رمزا لحقبة جديدة وربما يؤدي الى التوصل الى تقدم مشترك في التكنولوجيا المضادة للصواريخ وبتكلفة تستطيعها روسيا، ذلك ان حجم الترسانة النووية الروسية وترسانة صواريخها ستمنع أي دفاع صاروخي محتمل يهدد القدرة الروسية على الرد على مدى فترة الـ25 عاما المقبلة. وعلى الصعيد السياسي يعتبر التحدي الذي تشكله الاصولية الاسلامية هما يشغل الحكومة الروسية في الوقت الراهن. فالقادة الروس ينظرون الى نظام طالبان في افغانستان والى ايران وباكستان كأخطار تهدد جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق التي استقلت حديثا وهي اوزبكستان واذربيجان وقازاقستان وتاجيكستان وتركمانستان. علاوة على ذلك تخشى موسكو من الايدولوجيات المتشددة التي قد تثير نزعات تدعو الى استعادة الاراضي في محافظات روسيا الجنوبية. الولايات المتحدة، من جانبها، لها مخاوفها الخاصة المتعلقة بانتشار الاصولية الاسلامية باتجاه المملكة العربية السعودية وباكستان ومنطقة الشرق الاوسط بصورة عامة. هل يتخيل احد وجود سياسات متزامنة، او متوافقة على الاقل، مع روسيا حول الشرق الاوسط بما في ذلك آسيا الوسطى وافغانستان وايران والبلقان، فيما يتعلق بروسيا على الاقل؟

كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق على قناعة خلال حقبة الحرب الباردة بأن كسب أي نفوذ بواسطة واحد من الطرفين يعد في الاساس اضعافا لوضع الطرف الآخر على الصعيد العالمي. ورغم المشاورات التي هدفت في الكثير من الاحيان الى منع انفلات الازمات عن نطاق السيطرة، فإن الاستراتيجية الرئيسية لكل طرف كانت قائمة على العمل على اضعاف نفوذ الطرف الآخر. اما في حقبة ما بعد الحرب الباردة، فلا يمكن لأي من الطرفين تحقيق مكاسب دائمة على حساب الطرف الآخر في الشرق الاوسط. ربما تعتقد موسكو انها من خلال مساعدتها لايران في المجالين الصاروخي والنووي ستؤثر سلبا على فرص الولايات المتحدة في المنطقة، غير ان بعض صناع السياسة الاميركية ربما يرون فرصا موازية في مناطق اخرى في الشرق الاوسط. وفي نهاية الأمر، فإن محك سياسة كل دولة لن يكون قائما على اساس ما اذا كانت لأي منهما نفوذ اكبر في طهران، وانما سيكمن المحك فيما اذا عدل نظام طهران (او الانظمة الاصولية الاخرى) من سياساته وسلوكه. وما لم يحدث تغيير كهذا، فإن الخطر سيواجه روسيا والولايات المتحدة على السواء حتى اذا تفاوتت انواع هذا الخطر من وقت لآخر لأسباب تكتيكية. وتوجد ايضا حدود واضحة لا يمكن لاي من الدول تعديها. فأميركا لا يمكن، باسم معارضة الاصولية الاسلامية، الاذعان للوسائل التي تستخدمها روسيا في قهر الاضطرابات في الشيشان. كما لا يمكن لاميركا عدم الاهتمام اذا اصبحت الاصولية الاسلامية حجة لاجبار الدول المستقلة في اسيا الوسطى على العودة للسيطرة الاستراتيجية الروسية. ان سلامة اسرائيل تظل هدفا اميركيا اساسيا. ولم تظهر روسيا في الماضي اهتماما مماثلا ـ وإن كان هذ التوجه يتغير بالنسبة لبعض القيادات الروسية التي بدأت في النظر لاسرائيل كثقل استراتيجي معاكس للاصولية الاسلامية. واخيرا من الممكن ان المنافسة من اجل الوصول الى منابع النفط وطرق نقلها ستصبح عقبة اساسية للتنسيق. وفي النهاية فإن امكانيات التعاون الروسي الاميركي فيما يتعلق بالاصولية الاسلامية يعتمد على القدرة على الحصول على طريق بين توجهات الحرب الباردة واثارة سباق جديد من اجل السيطرة.

ان اهم التحديات المباشرة للعلاقات الروسية الاميركية هي توسيع حلف شمال الاطلسي (الناتو)، ولاسيما بين دول البلطيق ، وهو الموضوع المطروح على اجندة عام 2002. ان اخضاع السوفيات لهذه الدول في الاربعينات لم يحظ بإعتراف الولايات المتحدة. ولا يوجد ما هو اكثر استحقاقا للحماية من جانب الديمقراطيات الغربية اكثر من هذه الدول الصغيرة غير القادرة على تهديد جيرانها.

وفي الوقت ذاته، وبالنسبة لروسيا، فإن تقدم ناتو الى ما يقرب من 40 ميلا من سانت بيترسبرغ وفي دول تعتبر، حتى الحقبة الماضية، جزءا من الاتحاد السوفياتي لا بد وان يثير المتاعب بغض النظر عن التأييدات والضمانات المقدمة. ان عضوية دول البلطيق في الناتو ستؤدي الى رد فعل روسي قوي، حتى ولو كان لمجرد الحفاظ على موقف حكومة بوتين الداخلي. ومن ناحية اخرى، من المستحيل اخلاقيا وسياسيا تجاهل او تأجيل نداءات ديمقراطيات البلطيق ـ ولاسيما فيما يتعلق بالدعم الذي حصلوا عليه للانضمام الى الناتو من قبل الرئيس بوش خلال كلمته الاخيرة في وارسو. وتطرح ثلاثة بدائل نفسها في هذا المجال:

1 ـ مواجهة روسيا بضم كل دول البلطيق مع وضع ضمانات امنية مثل عدم الاتفاق على وجود قوات حلف الاطلسي في مناطق بحر البلطيق (عضوية اختيارية بالنسبة للبعض ولكن ليس كل دول البلطيق لن يحل شيئا. بل هو يثير كل المشاكل النفسية والسياسية ويخلق جرحا لا يشفى). وبما ان التهديد الواضح لامن دول البلطيق يأتي من جانب روسيا، فسيصبح من الصعب التوفيق بين هذه الخطوة وتصريحات الادارة الاميركية بان روسيا لم تعد دولة معادية.

2 ـ اذا كان الاتحاد الاوروبي جادا بخصوص تقوية دفاعاته، واذا كان على استعداد لتحديد مهمة واضحة ومحددة للقوة الاوروبية، فيمكن الاسراع بعضوية دول البلطيق في الاتحاد الاوروبي، بالاضافة الى ضمانات امنية من الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة، ولكن بدون الآلية الاساسية للبنية العسكرية للناتو.

3 ـ معاملة أهلية الانضمام للناتو، ليس كقضية امنية ولكن كاعتراف بالتطور السياسي والاقتصادي. ومن هذا المنطلق، يمكن لاي بلد تحقق المستويات المطلوبة ان تعتبر مؤهلة للانضمام للناتو بما فيها روسيا، بعد بضع سنوات من انضمام دول البلطيق، عندما يتقدم تطوره الداخلي اكثر. وقد لمح بوتين الى ذلك، وحثه العديد من مستشاريه على ذلك بوضوح. وهو اقتراح مغر. ولكن قبل المضي في هذا الطريق يجب الاهتمام بعواقبه.

ان عضوية روسيا في الناتو ستنهي الضمانات ضد تدخل روسيا وهو الامر الذي ترغبه الدول التي كانت تخضع للاحتلال الروسي، بما ان الناتو لم تقدم ضمانات ضد هجمات من الدول الاخرى الاعضاء في التحالف. ان ذلك سيضع نهاية لناتو كما هي الآن. لان التحالف يحمي منطقة محددة، وبعد انضمام روسيا فإن التحالف سيصبح اما منظومة امنية جماعية او تحالف لدول شمال الاطلنطي ضد الصين ـ وهي خطوة ذات عواقب وخيمة طويلة المدى.

من المرغوب فيه تحسين علاقات روسيا مع الناتو بحيث يختفي موضوع الامن ـكما حدث بين المانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الثانية ـ ولكن بلورة مثل هذه النتيجة لتسهيل عضوية دول البلطيق في الناتو هو امر سابق لاوانه ويتسم بالمفارقة.

يجب الترحيب فورا بروسيا في المنظومة السياسية لحلف الناتو، ولكن يجب تأجيل العضوية في الجناح العسكري. ويمثل ذلك التحديات التالية:

1 ـ يجب رفع مستوى العلاقات الاميركية الروسية من المستوى النفسي الى السياسي، فلا يجب جعلها تعتمد على العلاقات الشخصية للقادة. ويتطلب ذلك ترابط الهدف والمضمون؟ وفيما يتعلق بالدفاع الصاروخي، ليس من المرجح ان تمنحنا روسيا اذنا مفتوحا، يجب ان تتركز المناقشات حول مشروع او مشاريع محددة ـ ويجب تبلور نوع من التفاهم لديه صفات ملزمة ـ وان كنت اتفق مع الادارة على الا تمنح المناقشات القادمة روسيا حق الفيتو، كما يجب التوصل الى نوع من الفترة المحددة.

2 ـ وفي المجال السياسي، يجب ربط ضروريات الحاضر بآمال المستقبل. وينطبق هذا بصفة خاصة على علاقات اميركا بالناتو، التي تعتبر التنظيم الوحيد الذي يربطنا باوروبا. ولكنه ينطبق ايضا على علاقات اميركا مع الصين واليابان واسرائيل.

3 ـ ستسعى روسيا، من نفس المنطلق، للحفاظ على نفوذها في مناطق ذات اهمية تاريخية وجيوسياسية بالنسبة للدولة الروسية، وتحوط في حالة فشل الجهود لخلق قاعدة جديدة للعلاقات الروسية الاميركية ـ مثل معاهدات الصداقة الاخيرة مع الصين وكوريا الشمالية.

4 ـ يفرض كل ذلك الحاجة لافكار جديدة في السياسة الخارجية الاميركية. فمع سياسة خارجية حكيمة، يجب على اميركا، في المستقبل المنظور، ان تصبح في موقف يسمح لها خلق حوافز تتيح لكل من روسيا والصين الحصول، من العلاقات التعاونية مع الولايات المتحدة، على اكثر مما تحصل عليه من المواجهة.

5 ـ العلاقات المجمدة التي كانت سائدة في الحرب الباردة لا تناسب عالما لا توجد فيه عداوات رئيسية، اصبح فيه الخط الفاصل بين الاصدقاء والاعداء في مرحلة انتقالية في عديد من المناطق. وفي مثل هذه الظـروف، فإن الولايات المتحدة في حاجة الى اعداد دبلوماسية تمنع تهديدات المصالح والقيم الاميركية الاساسية، بدون تحديد العداوات مسبقا، وعن طريق سياسة معتمدة على اوسع اجماع دولي ممكن بخصوص الاهداف الايجابية.

* وزير الخارجية الأميركي الأسبق ـ خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»