أوباما.. والتعامل مع الميزانية

TT

صباح إعلان الميزانية، تهيأت الحكومة الأميركية للتحلي بالصرامة حسب تفهمها لها، فبعد عرضها ميزانيتها التي بلغ إجمالي قيمتها 3.5 تريليون دولار على الكونغرس، أعلن الرئيس مسبقا ـ ربما كي يتخذ وزراؤه استعدادهم لإجراءات التقشف الجديدة ـ أنه خلال اجتماعه الأول بوزرائه سيصدر تعليماته إلى رؤساء الوزارات الـ15 بإيجاد سبل لتوفير قدر من المال يبلغ في مجمله 100 مليون دولار ـ أي ما يكافئ قرابة 13 دقيقة من الإنفاق الفيدرالي، و0.0029% ـ حوالي ربع واحد في المائة ـ من مجمل الميزانية البالغة 3.5 تريليون دولار. وتشير الأرقام المتوافرة إلى أنه إذا ما اقتطعت وزارة الزراعة مبلغ الـ100 مليون دولار بأكمله من ميزانيتها وحدها، فإن ذلك سيعادل 0.1% من ميزانيتها خلال السنة المالية 2008. وربما يتذكر الرئيس هذه الفقرة التي وردت بمقال نشرته «واشنطن بوست» في عدد 24 يناير (كانون الثاني): «وزير الزراعة توم فيلساك.. علم أن مكان عمله الجديد يضم مكتب بريد ومراكز للياقة البدنية وكافيتريات و6.900 موظف. إلا أنه ما يزال على غير ثقة حيال العدد المحدد للموظفين الذين يتولى الإشراف عليهم بمختلف أرجاء البلاد. وقال: «سألت عن عدد العاملين لدى وزارة الزراعة، ولم تكن لدى أحد معرفة حقيقية بهذا الأمر»».

وفي واقع الأمر، فإن المرسوم الرئاسي المتعلق بمبلغ الـ100 مليون دولار، يوحي بنقص في نهر المساعدات الفيدرالية المتدفق من واشنطن باتجاه الفقراء المستحقين، حسبما يجري تفهم هذه الفئة في الوقت الراهن، وهم: شركات السيارات منعدمة الكفاءة، وشركات التأمين المتهورة، والمصارف التي تعاني من سوء الإدارة، وحكومات الولايات المسرفة.. إلخ. إلا أن كتاب المقالات السياسية الساخرة جديرون بالحصول على إعانة من الحكومة الفيدرالية لتحويلها كتاباتهم الساخرة على سياسة عامة تنتهجها بالفعل.

ومن جهته، جعل الرئيس من نفسه قدوة أمام كبار مسؤولي حكومته بإغداقه تريليون دولار أو ما يقارب ذلك (عبارة «ما يقارب ذلك» باتت اليوم تعبيرا موجزا لـ«زيادة أو نقص بضع مئات من المليارات») هنا وهناك، وفي الوقت ذاته عمد إلى توفير 15 مليون دولار من خلال قتل، أو محاولة قتل، برنامج بالغ الضآلة نجح هذا العام في تمكين حوالي 1.715 طفل من أبناء العاصمة واشنطن (90% منهم من أصحاب البشرة السمراء، و9% من أصول لاتينية) من النجاة من المدارس العامة المنهارة بالمدينة والالتحاق بمدارس خاصة.

ويحظى البرنامج بمساندة عمدة واشنطن والمراقب العام المعني بالمدارس. لكن الرئيس تعهد بالقضاء على البرامج «غير الناجعة»، وبعد أن أمعن النظر يمينا ويسارا، لم يجد سوى برنامج واحد. وتتجلى مصادفة غريبة في أن هذا البرنامج يلقى إعراضا أيضا من قبل نقابات المدرسين التي تبرعت العام الماضي بما يعادل أربعة أضعاف مبلغ الـ15 مليون دولار لصالح مرشحين عن الحزب الديمقراطي وقضايا ليبرالية.

إلا أن وزير التعليم، آرن دنكان (الرئيس السابق لنظام مدارس شيكاغو، التي لم تلتحق بها قط أي من ابنتي أوباما) لم يكتف بمشاهدة البرنامج على مشارف الموت بعد السنة الدراسية 2009-2010، حيث عمد دون داع إلى تحطيم الآمال الضئيلة لـ200 طفل آخرين وآبائهم وأمهاتهم. واتخذ دنكان، الذي اختار العيش مع زوجته وطفليه في فيرجينيا بدلا من العاصمة واشنطن، قراراً بإلغاء المنح التي تم تقديمها بالفعل إلى هؤلاء الأطفال عن السنة النهائية من عمر البرنامج التي تبدأ من سبتمبر (أيلول). والواضح أن دنكان لم يكن يشغل باله سوى الأطفال وذويهم نصب عينيه عند اتخاذه هذا القرار، ذلك أنه رغب في أن يوفر عليهم مشقة العودة مجبرين، بسبب دنكان وأقرانه الديمقراطيين، إلى المدارس العامة البشعة بعد أن عاينوا لمدة عام وجها أفضل للمدارس، الأمر الذي يمكن وصفه بالليبرالية المتعاطفة.

وفي أعقاب عقد الكونغرس نقاشا حول البرنامج، أصدرت وزارة التعليم ـ بعد ظهر الجمعة ـ دراسة بناء على توجيهات من الكونغرس كشف أنه اعتمادا على مستوى تحسن أداء الطلاب ورضاء الآباء والأمهات، يعد البرنامج ناجحا. وعجزت الوزارة عن طمس أنباء التقرير الصادر عن منظمة «هريتدج فونديشن» الذي توصل إلى أن 38% من أعضاء الكونغرس ألحقوا أو يلحقون بالفعل أبناءهم بمدارس خاصة. ومع ذلك، صوت مجلس الشيوخ بأغلبية 58 صوتا مقابل 39 صوتا لصالح قتل البرنامج. وأشارت «هريتدج» إلى أنه حال تصويت أعضاء مجلس الشيوخ الذين مارسوا قدرتهم على اختيار المدارس الخاصة لصالح استمرار البرنامج، كان ذلك سيسمح للآباء والأمهات الأقل ثراء باتخاذ هذا الاختيار بالنسبة لأطفالهم، وكان البرنامج سيستمر.

ومع إجبار الرئيس ومشرعي حزبه أطفال القليات على العودة إلى المدارس العامة، التي لم تطأها قط أقدام طفلتي الرئيس أو أطفال المشرعين الديمقراطيين، عليه أن يتذكر ذلك: لقد شهدنا صورة من هذا التوجه الرديء من قبل. إن أحد الأسباب وراء وصول أبناء التيار المحافظ إلى السلطة في الثمانينيات تمثل في إعلان الليبراليين نفاقهم في السبعينيات عبر تأييدهم إجبار أبناء الآخرين ارتياد مدارس لم يرتدها أبناء الليبراليين أنفسهم.

والآن، ستعاود هذه القضية الظهور. وفي غضون شهور قليلة، سيجري طرح مشروع قانون المخصصات المالية المتعلقة بالعاصمة واشنطن على مجلس النواب، حيث سيندلع قتال شديد حول مصالح الأطفال. حينئذ سنعلم ما إذا كان الرئيس وحلفاؤه في الكونغرس لديهم القدرة على الشعور بالحرج أم لا. في الواقع، تشير الأدلة المتوافرة حتى الآن إلى أن الإجابة هي النفي.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»