عودة الائتلاف الشيعي وعودة العراق إلى المربع الأول

TT

تشهد الساحة السياسية العراقية نشاطا محموما لم يسمع دويّه لحد الآن لمختلف الكتل السياسية العراقية في العراق وخارجه في فترة حساسة لا يمكن أن تتجاهل نتائج انتخابات مجالس المحافظات ودورها الكبير في تغيير خارطة مراكز القوة على الساحة السياسية بشكل عام والشيعية منها بشكل خاص، وكذلك تستعد لخوض الانتخابات العامة المتوقعة في الشهر الأول من العام 2010، والتي ستؤسس في نتائجها البداية الحقيقة لعراق ما بعد سقوط حكم صدام حسين على مستوى ثلاثة احتمالات:

الأول: يتمثل في استمرار الوضع كما هو عليه الآن، عراق بلا هوية، بلا معالم طريق واضحة، منهك الاقتصاد بسبب الفساد المالي والإداري الذي تتوزع مسؤوليته على الجميع بلا استثناء.

غارقا في الصراعات الخفية والمعلنة بين أركان التجربة السياسية الجديدة، بينهم وبين القوى المختلفة التي بقيت خارج إطار هذه التجربة والمصنفين في خانة أعدائها لأسباب عديدة يجمعها المصلحة في ضرب كل مقومات الاستمرار والنجاح.

الثاني: أن تتعزز نظرية ما يسمى بالمكونات التي تقسم المجتمع العراقي إلى شيعة وسنّة وأكراد وأقليات على أساسها تتوزع السلطة وتتقاسم مراكز المنفعة والنفوذ ويسود قانون المحاصصة بديلا عن الكفاءة وتغيب معايير المواطنة ويتقدم الانتماء الطائفي والعرقي ويصطحب معه عوامل الاحتقان والتوتر الدائم بين أبناء المجتمع العراقي الواحد، الأمر الذي كاد يصل بالعراق إلى حافّة حرب أهلية شاملة لن تقف إلا بعد إيمان الجميع باستحالة التعايش، ومن ثم قبول ما يسمى بمشروع بايدن الذي يقسم العراق إلى ثلاث دويلات .

الثالث: أن يتقدم المشروع الوطني على ما سواه من المشاريع فيكون بناء الدولة على أسس سليمة هو الهدف والسلطة هي وسيلة للوصول إليه ويميز في أجندته الفكرية والسياسية بين دولة القانون والمؤسسات وبين دولة السلطة والمركزية السياسية والمالية والدفاعية، وبين احتكار السلطة والفيدرالية الاتحادية والفيدرالية التقسيمية، وبين الديمقراطية الحقيقية والديمقراطية التوافقية, بين خصوصية الفرد في دينه أو مذهبه أو قوميته، ووطنيته وعراقيته.

عودة الائتلاف: إن الائتلاف العراقي الموحَّد هو ائتلاف سياسي يحمل عنوانا وطنيا ولكنه في حقيقته ومنطلقاته وطبيعة أعضائه هو تكتل طائفي وإسلاموي تأسس باسم الشيعة وخاض الانتخابات على ركام مظالمهم وعديد شهدائهم قبل أكثر من ثلاث سنوات، هذا الائتلاف لم يعد كما هو عليه حينما بدأ، وذلك بسبب الظروف الاستثنائية لنشأته ولانسحاب العديد من أطرافه في فترات مختلفة انسحابا رسميا منه كما هو مع التيار الصدري، وبعضها انشق إلى قسمين كما هو مع كتلة مستقلين الذين ادّعوا تمثيل المرجعية في هذا الائتلاف، وبعضها لم يعد هناك ما يربطه بهذا الإطار سوى الاسم كما هو مع حزب الدعوة بزعامة المالكي أو باسم الجعفري، وليس بأفضل منه الحال مع جبهة التوافق الائتلاف الطائفي الذي جاء ردة فعل مباشرة للائتلاف الشيعي تأسس باسم أهل السنة وتحت شعار حمايتهم والدفاع عن حقوقهم، فقد تفكك هو الآخر ولم يعد التوافق ممكنا بين أطرافه فضلا عنه مع الأطراف الأخرى.

بالطبع ليس هناك ما يدعو إلى البكاء على هذه النتيجة قدر ما هي علامة مهمة على بداية انحسار المشروع الطائفي في العراق وتقدم المشروع الوطني الذي بدأ ينمو ويتبلور من خلال العديد من التحالفات الجديدة والاقتراب الملموس بين قوى كانت في خنادق مختلفة وتوجهات متباينة، وكذلك على مستوى الشارع العراقي في كل مكان، الشارع الذي سئم من هذا التقسيم المفتعل والطارئ على تاريخه وثقافته وذوقه وراح يتطلع إلى اختيار ممثليه على أساس الكفاءة والنزاهة وليس على أساس الشعار والرموز والأصنام والأوهام التي لا تمتّ بصلة إلى قواعد الدين الحنيف وتشريعاته وأحكامه، هذا الواقع الجديد الذي عززته نتائج انتخابات المجالس المحلية.

إن هذا الانحسار والتراجع للطائفية السياسية والاحتقان على صعيد واقع المجتمع العراقي والذي انعكس بوضوح على مستوى خطاب بعض القادة السياسيين وتوجهاتهم، تَسبّب في ظهور مخاوف حقيقية لدى أطراف معروفة لا تريد بالعراق خيرا وعملت منذ الأيام الأولى على دعم جميع أسباب إضعافه وتقسيمه وتفتيته، هذه القوى تعود ذاتها اليوم لتعمل من جديد كي تعود بالعراق إلى المربع الأول وتقذف به إلى المجهول، وذلك على مستويات عدة:

الممانعة والمعارضة لأي توجه لدى الحكومة العراقية أو القوى السياسية الوطنية من شأنه أن يعالج بشكل شفّاف العديد من المسائل الحسّاسة ذات العلاقة المباشرة بإنهاء حالات التوتر والاحتقان وبضبط الأمن وبسط حالة الاستقرار كما هو في مشروع المصالحة الوطنية وموضوع الصحوات وتفعيل لجنة التعديلات الدستورية ومشكلة كركوك ووثيقة الإصلاحات السياسية وغيرها.

تشجيع عودة دورة العنف والدم بقوة من جديد بعد كسر شوكتها نسبيا بفعل تطور القوات المسلحة والأمنية العراقية، وذلك بدعم ومساعدة مختلف الاتجاهات من الجماعات المسلحة ومدّها بالتسهيلات اللازمة لتوزيع عملياتها الإجرامية بطريقة مدروسة من شأنها أن تعيد المخاوف وتهز عوامل الثقة بين مكونات المجتمع العراقي وتعيد حالة الاحتقان التي قد تمتد إلى عودة عمليات القتل والثأر والانتقام بين أبناء المجتمع الواحد.

نقطة البداية: لعل أخطر حلقة في هذا السيناريو هي نقطة بدايتها وبنفس الوقت حجر الزاوية فيها المتمثل في العمل على عودة الائتلاف الشيعي إلى التشكّل من جديد بهدف خوض الانتخابات القادمة، للأسباب التالية:

عودة الائتلاف الشيعي تعني بالضرورة عودة ائتلاف سني في الجهة الأخرى وتأكيد تقسيم المجتمع العراقي إلى ثلاثة كانتونات شيعية وسنّية وكردية تسيّس وتنظّم حالة الارتباك والخلل الموجود وتجذره في الواقع العام للمجتمع العراقي.

إن هذا الحراك الذي يدور الآن بصمت داخل الساحة العراقية بشكل عام والشيعية منها بشكل خاص سوف ينشط قريبا في العلن وينطلق البكّاؤون وينتشرون لإقامة مجالس الحزن والعزاء على تاريخ الشيعة الغارق في الظلم والحافل بالتضحيات، ويدعون هذه الأمة المظلومة إلى التماسك والوقوف في وجه «المؤامرات» التي تحيط بوجودها من أجل إضعافه وتفتيته.

وقبل ذلك وبعده، سوف لن تقف الرسائل المباشرة وغير المباشرة القادمة من الشرق لتحمل في طياتها كل ألوان الترغيب إلى «حُماة» الطائفة ومختلف ألواح الترهيب لكل من يفكر ولو قليلا بهوية وطنية أو مسؤولية عراقية ويتحرق خوفا على وحدة العراق وهيبته وقوته ويحرص على موقعه وانتمائه وهويته، وستشهد الساحة أيضا زيارات مكوكية سرية وعلنية لشخصيات معروفة في تاريخ مسؤوليتها عن الشأن العراقي الداخلي ومعروفة بقوة تأثيرها على قوى وشخصيات عراقية مستعدة وجاهزة بلا عناء لتنفيذ ما يوكل إليها من أدوار في رسم معالم الجغرافية والتاريخ للعراق القادم ولأمد غير معلوم، يرافق ذلك ميزانية مفتوحة وسخية من الأموال لهذا الأمر الخطير والحساس بالنسبة إلى مستقبل العراق والمنطقة.

أمام كل هذا وغيره كيف سيفكر المسؤولون العراقيون بكل أطيافهم وألوانهم ومستوياتهم من أجل مستقبلهم ومستقبل بلادهم وأبناءهم؟

وأين سيكون موقع الشارع العراقي الذي سيكون لصوته الدور الأساس والأثر الكبير في رسم معالم الطريق لمستقبل زاهر مشرق؟

وكيف سيتعامل العرب وسائر الجيران مع هذا الممكن المؤلم الذي لن يسلم أحد من لظى ناره إذا اضطرمت لا سمح الله؟

وكيف سينظر الموقف الدولي وعلى رأسه أمريكا (المحررة) والعراق مآله صومال أخرى يحكمه أمراء الحرب والقراصنة؟

*عضو مجلس النواب العراقي