سقوط تكتيكي... واستراتيجي معا

TT

مرة أخرى يسقط النظام اللبناني ـ من حيث يدري او لا يدري ـ في امتحانين «ابتدائىين» للحكم: اولهما التزامه ببديهيات حقوق الانسان وثانيهما خياره لاسلوب معالجة ازمات الشأن العام. على الصعيدين الاستراتيجي والتكتيكي معا... سجل النظام اللبناني قصر نظر تحسده عليه الانظمة «العالمثالثية» في وقت لم يعد فيه احترام جميع حريات الفرد المحدودة بحريات الاخرين وبمقتضيات الصالح العام مجرد شعار ايديولوجي بل اصبح نصا دستوريا يحكم الرأي العام بمقتضاه على مصداقية «دولة القانون» في بلده.

وفي هذا السياق، اذا كان التنوع السياسي داخل الوحدة الاجتماعية للانظمة الديمقراطية احد المستلزمات الاساسية للعبة الديمقراطية، فمن تحصيل الحاصل ان يكون غيابها ـ والاصح تغييبها ـ محاولة لتحويل النظام الى مجرد آلية «لتشريع» التعاقب على الحكم وتحويل المواطن الى مجرد متفرج، واحيانا «شاهد زور»،على ما يحدث.

ورغم ان احدا لم يلصق بالتركيبة السياسية اللبنانية «تهمة» الديمقراطية ـ سواء قبل اتفاق الطائف او بعده ـ ارتأى الكثيرون اعطاء العهد الراهن فرصة زمنية كافية لاقامة «دولة القانون» التي نادى بها معتبرين ان حدا ادنى من الالتزام بالنصوص القانونية من شأنه ان يكفل تعايش «الاجهزة» مع المؤسسة المدنية، أو، على الاقل، يكفل «تقطيع» الوقت بانتظار الافضل، خصوصا ان لبنان محكوم باولويات طروحات «الوحدة الوطنية »، مع ما تتطلبه من «تضحيات» على صعيد الحريات العامة... الى ان يتحقق سلام الشرق الاوسط «العادل»، وبتعبير آخر: المستحيل. أما على الصعيد التكتيكي،فان حملة الاعتقالات الواسعة التي واجهت بها «الاجهزة» تظاهرات محدودة لمناوئي مفهوم الدولة للمرحلة الراهنة ـ ولا نقول سياستها ـ اعطت نتائج عكسية بحيث دفعت المعتدلين الى الالتفاف حول المتطرفين في مواجهة ما بدا من استئثار المؤسسة الحاكمة ـ أو بعضها ـ بسلطات مطلقة. لا غرابة في دولة يتوزع معظم المواطنين فيها بين «موظف» في حزب سياسي و«عميل» لجهاز استخباراتي ان تكون دولة تضيق ذرعا بالحريات العامة وتعتبر مهمتها الاولى احصاء انفاس الناس... لا سد رمقهم.

ولكن من اللافت ان يفجر النظام قضية سياسية «دون كيشوتية» في وقت لا يختلف فيه اثنان على ان قضية لبنان الاولى اقتصادية ـ معيشية لا سياسية. واذا كان ثمة مأخذ على التظاهرات الاخيرة فقد يكون في تقديمها الشأن السياسي على الشأن الاقتصادي، الامر الذي يصب، عمليا، في خانة مصلحة النظام بقدر ما يساعد على اشاحة الانظار عن «القضية اللبنانية» الاكثر الحاحا، فمع التسليم بالارتباط الوثيق بين السياسة والاقتصاد، لم تعد اولويات لبنان تحتمل المزيد من التدهور الاقتصادي لاسباب سياسية وداخلية.