محنة جد الفنون

TT

هل الفن المسرحي صرخات احتجاج من مجموعات من المتمردين الخارجين على الأعراف أم انه مؤسسة تنتج الجمال والمعرفة والمتعة، وتعرف قواعد الانتاج ولغة السوق؟

مهرجان ادنبرة الصاخب كعادته هذه الأيام يميل الى الفرضية الأولى ويقدم خشباته لشباب مغمورين، وأصحاب مواهب مجهولة دون ان يهمل قواعد الفن الخارجي من مؤسسات راسخة لذا ينقسم برنامجه السنوي الى متن وهامش وراسخين وصاعدين.

اما المسرح الملكي الوطني البريطاني الرابض جنوب نهر التيمز في قلعة الفنون «ساوث بانك» والذي افتتح أبوابه قبل ربع قرن من هذا التاريخ فالتزم منذ بداياته بالجانب الثاني من الفرضية وقدم نفسه كمؤسسة تعرف بقوانين السوق دون ان تغرق في الجانب التجاري من الانتاج لذا ظلت عروضه واختياراته قريبة من ذوق النخبة ومجدية تجارياً للحفاظ على ذلك الصرح الثقافي والفني الهام الذي يقدم الى جانب العروض ندوات مناقشة ولقاءات مع النجوم وأمسيات ذات طبيعة خاصة تلبي أذواق المختصين بأقدم الفنون وأرقاها.

وفي العالم العربي تبرز مؤشرات مختلفة ومربكة تمنع من تكوين صورة حقيقية عما يجري في ساحة جد الفنون، وأبيها، فهناك بعض المواسم التي تشهد ازدهاراً لافتاً للمسرح القومي المصري، او المسرح القومي السوري وفي مواسم أخرى يغيب هذا المسرح الذي يفترض ان يكون اكبر مؤسسة انتاجية مدعومة للفن الراقي.

وفي المغرب تراوح المسارح شبه الرسمية رغم معونات الدولة في مكانها، وتبرز بين الحين والآخر والفينة وأختها بعض الأعمال لفنانين مؤسسين وأصحاب تراث طويل كالطيب الصديقي، وفرقته التي يعتمد فيها على الأهل والأقربين.

وتونس التي كانت تنتج مسرحاً ممتازاً في الثمانينات وأوائل التسعينات بدأ بريقها يخبو فالفن فيها مثل الاقتصاد نوبات ازدهار، وركود، وربما كان الجيل الذي صنع تلك النهضة كالجبالي والسويسي قد يأس من اصلاح الوضع وتربية جمهور عربي لفن المسرح بعد ان شاهد من خلال مهرجانات قرطاج ان حفلة لمطرب او مطربة من الدرجة الثانية تجمع نصف البلد ومسرحية ممتازة تبذل فرقتها جهداً كبيراً تظل مقاعدها تصفر فيها الريح ودون مشاهدين.

وكان المنصف السويسي مع انطلاق شهرته في السبعينات قد تابع جهود المخرج الكويتي الراحل صقر الرشود في رسم خطة لنهضة مسرحية في الامارات وهي ذات الخطة التي تابع بعض فصولها المخرج العراقي جواد الأسد، وهناك في الامارات وقطر عشرات الفرق المسرحية المدعومة لكن النتيجة لا تسر الخاطر، فالمسرح لا ينهض بالموازنات الضخمة وحدها ولا بالتجريب وحده كما يفعل مسرح القاهرة التجريبي منذ اكثر من عشر سنوات، وبميزانية لا بأس بها.

وما دمنا قد ذكرنا التجريبي وتجربة الامارات وقطر فلا بد من الاعتراف بأن تقاليد الذهاب الى المسرح في العالم العربي ليست موجودة وهذه التقاليد لا يتم صنعها بين يوم وليلة ولا بين عشية وضحاها. وهنا يأتي دور المؤسسات الفنية الراسخة في صنع هذه التقاليد، فلو كان المسرح القومي المصري والقومي السوري او المسرح الوطني بحلب قد تابعت الانتاج الجيد في المواسم كلها أو معظمها لترسخت من خلاله تقاليد الفرجة المسرحية التي لا تكتمل دون مشاركة الجمهور وحماسته الضرورية للروح المعنوية ولتمويل الانتاج المسرحي الجيد.

وتبقى الاشارة الى التجربة اللبنانية وهي كبحر بيروت في حالة مد وجزر، والجزر هذه الأيام أكثر من المد، فنضال الأشقر اقدم المحترفات المسرحيات وأشهرهن تنعي في كل حديث سري وعلني افلاس المسرح في لبنان، وهذه المرة ليس بسبب فقدان الحرية انما لغياب الممول والجمهور معاً.

ان الفن عموماً والفن المسرحي على وجه الخصوص يتطور بالهامشيين والمتمردين وبالمؤسسات الراسخة التي تصنع التقاليد وتقود مسار الذائقة ونحن ـ والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه ـ نقمع الفئة الأولى، ونهدر المعونات الشحيحة للمؤسسات ـ ان وجدت ـ على التوافه وفي هكذا مناخ لا تسأل عن المستقبل ولا عن الماضي، فالحاضر القبيح ينيخ بكلكله على التجارب التراثية الناجحة، ويكاد يمنع التفكير بأية نهضة مسرحية لكننا وكما قال سعد الله ونوس لا نملك الا ان نحلم، فنحن محكومون بالأمل.