يا قطارا في البوادي

TT

للذين قرأوا من حضراتكم هذه الزاوية عن رحلة الزعيم الكوري المحبوب كيم جونغ ايل الى موسكو، في الذهاب، يقتضى الواجب ان نبلغهم ان رحلة الاياب الى بيونغ يانغ قد بدأت، وان القطار المصفح يتهادى في البر الروسي مثل شراع وراء دجلة، بطيئا، هادئاً، قريرا، وفي مقدمته خرزة زرقاء. لكن الطريق طويل. طويل في سيبيريا. ستة ايام من موسكو الى فلاديفوستوك، عز الانجازات السوفياتية، حيث كانت تهبط العربات الفضائية العائدة بعيداً عن اعين الاميركيين، وحيث كان ليونيد بريجينيف غاية في التكرم بتبني الشعب الكوري والأمة الكورية.

ومن المكرمات ان الزعيم المحبوب يسدد الديون المترتبة لروسيا في صفقات السلاح، يسددها، نعم يسددها، رفاه نعم، رفاه اي عمال كوريون وساعات عمل. والعيب ليس في ان يعرض ذلك بل ان تقبل موسكو، التي تزعمت ذات قرن حركات تحرير «الشعوب» وسيادة الطبقات الكادحة وحكم الطبقة العاملة. فاذا بالكادحين الشيوعيين يكدحون مثل العبيد في ايام روما. بحفنة من الأرز. المكان خال الا من الصحافيين المرافقين. وعندما وقف يتأمل في «الارميتاج» ساعة ضخمة تدور على نفسها، سارع الحرس الى ابعاد الصحافيين الروس لكي «لا يلتقطوا المشاعر التي يمكن ان تبدو على وجهه الكريم».

مليون انسان ـ على الاقل ـ ماتوا من المجاعات في نعيم الزعيم المحبوب. وقبل اشهر قرأت في «الفيغارو» ان العمليات الجراحية تجرى على الاطفال من دون بنج، لأن لا مخدرات طبية هناك. هناك فقط تماثيل الزعيم المحبوب. والصادرات اليابانية من الالعاب الالكترونية. واحيانا يسافر الاولاد بجواز سفر مزور لحضور «والت ديزني» في طوكيو تاركين خلفهم شعباً لا يعرف من فنون الدنيا سوى الأناشيد التي تبجل الزعيم المحبوب ومنجزاته وأفضاله.

في تغطيتنا لرحلة الذهاب الميمونة، ذكرنا، ونحن نبالغ في التفسير، ان الشعب الكوري سوف يتابع رحلة زعيمه المحبوب محطة محطة في بوادي روسيا وفلوات الصقيع. خطأ. خطأ. مثل هذا الكلام العادي يقال عن الزعماء العاديين. اما الحقيقة فهي ان الشعب الكوري لم يبلغ بغياب «أب الأمة» الا بعد 12 يوماً من رحلته المظفرة. اي بعدما كان قد قطع مسافة الوصول وحل في موسكو ثم ذهب الى متحف «الارميتاج» الشهير في سانت بطرسبرغ، حيث تقع معظم الدراميات التي وضعها دوستويفسكي: «مذلون ومهانون». «الغبي». «ليال بيضاء». «الاخوة كارامازوف»، وسواها.

يمتلئ قطار «الزعيم المحبوب»، الاخضر والرمادي بالزجاج الداكن، بالألعاب الالكترونية التي تولى تأمينها اليابانيون الذين صنعوا القطار. وفي مقطورة الزعيم شاشة جدارية كبرى يستطيع ان يرى عليها طريق القطار وسيره. وهي وسيلة اتبعتها الطائرات الاميركية في رحلاتها الداخلية، والآن تستخدمها «الامارات» في الاقلاع وفي الهبوط. و«يبحر» الزعيم ايضاً في عالم الانترنت. وتوفر الطاقة لكل هذه الكهربائيات محركات وضعت في المقطورة المجاورة. وهناك مقطورة مكشوفة في القطار لم يبلغ بها المسؤولون الروس. اما الاطباء والحرس والعمال فقد حشروا في آخر مقطورتين من القطار.

يهنئ الرائد العائد من دورة الارض، فيجيب هذا: «لست انا من يستحق التهنئة ايها الرفيق ليونيد بل هي انجازات الحزب».

الطريق طويل على الزعيم المحبوب، برغم كل مجموعات افلام الفيديو التي ترافقه ولا تفارقه. ولذلك يطوي وصحبه المسافات قاطعاً الملل بمشهيات الطعام. وتضم الوجبات (وكالة ريا ـ نوفوشي) اشياء مثل الكركند و«اللحم السماوي». وتعرض افواج الكركند حية على آكليها فيتطلعون ويتمعنون ويهمهمون ويوافقون. فتطهى، اما بالنسبة الى «اللحم السماوي» الذي يبدو انه الطعام المفضل لدى الزعيم المحبوب، فهو مجرد اسم شاعري كما تقول «الموندا»، للحم الحمير، اكرمكم الله. وللناس في اذواقها شجون: حساء الأفاعي في الصين وحساء الكلاب في كوريا الجنوبية.