طبيعة السياسة تغلب تطبع خاتمي المثقف

TT

يبدأ الرئيس محمد خاتمي ولاية ثانية بعد ادائه اليمين الدستورية أمام البرلمان الاسبوع الماضي في ظل تجاذبات سياسية بينه وبين خصومه السياسيين أقل ما يقال عنها انها غير مؤاتية تماما لطموحات برنامجه الاصلاحي المعلن.

ويعتقد المراقبون والمحللون السياسيون على نطاق واسع ان الحكومة المرشحة للاعلان والمعروضة لمناقشات البرلمان لن تكون على مستوى طموحات الاكثرية البرلمانية الاصلاحية التي ضغطت كثيرا خلال الشهرين الماضيين على الرئيس المنتخب لتأتي على «مقاسها» من دون جدوى.

وعليه يطلق القارئون بدقة لاسماء الوزراء المقترحين من جانب الرئيس على التشكيلة الحكومية الجديدة «بالحكومة غير السياسية» أو بحكومة الحد الأدنى التي لا تزعج المحافظين أو لا تغضبهم على الأقل، لكن لا ترضي ولا تلبي بأي شكل من الأشكال طموحات وتطلعات جبهة الثاني من خرداد الاصلاحية ، لا سيما الجناح الراديكالي منها والمعروف بحزب جبهة المشاركة.

فالحكومة الجديدة المقترحة نعيب عليها، وعلى عكس الحكومة المقترحة من جانب محمد خاتمي في بداية ولايته الأولى، كل الوجوه السياسية «النارية» البارزة التي حملت على اكتافها مشروع الاصلاحات طوال مدة الولاية الأولى للرئيس.

ثمة من يعتقد في طهران من المتتبعين والمتابعين بانتظام للحركة السياسية الايرانية من الداخل بأن التاريخ يكرر نفسه اليوم مع الرئيس الاصلاحي محمد خاتمي.

صحيح ان خاتمي ليس رفسنجاني، وصحيح ان المجتمع الايراني اليوم ليس هو المجتمع الايراني قبل عشر سنوات، وصحيح ان الطاقم السياسي المحيط بالرئيس الخامس لايران ليس هو الطاقم السياسي الذي احاط بالرئيس السابق وصحيح ايضا بأن الرئيس الحالي ليس رجل المساومات «تحت الطاولة» كما يحلو لحوارييه ان يصفوه حتى يميزوه عن سلفه الذي اشتهر عنه اتقانه لسياسة المساومات وديبلوماسية التسويات.

لكن السياسة هي السياسة، ومقتضيات الحكم هي نفسها التي اجبرت الرئيس السابق على الرضوخ لعالم التسويات في ولايته الثانية وتجبر الرئيس الحالي للقبول، بحكومة الحد الادنى تجنبا لوقوع ما لا تحمد عقباه.

واذا كان الرئيس السابق بطبيعته الريفية قد قالها بملء الفم «يومها» بأنه يقدم حكومة «غير سياسية»، مبررا خطوته يومها بالقول إنه يكفي ان يكون على رأسها رئيس سياسي من الطراز الأول، فان الرئيس الحالي المدني الطراز والطابع واللهجة، سيعبر عن نفس الجوهر لدى تقديمه حكومته العتيدة، ولكن بلغة المجتمع المدني الذي يعرف كيف يخاطب جمهوره الانتخابي بلغة ما بعد الحداثة الاسلامية الديمقراطية! ليس المقصود هنا مقارنة حكومة الولاية الثانية للرئيس الحالي بحكومة الولاية الثانية للرئيس السابق، ولا مقارنة سلوك الرئيسين بالتأكيد، لكن الذي أود استخلاصه من هذه المراجعة التاريخية ما هو أهم الا وهو:

ان الحكم وادارة الحكم ليسا منتدى ثقافيا ينتمي الى مؤسسات المجتمع المدني، على الاقل في عالمنا المعاصر. نعم قد يكون هذا ممكنا في المدينة الفاضلة التي يطمح اليها المفكرون المصلحون وفي مقدمتهم في الوقت الراهن الرئيس محمد خاتمي.

فالسلطة السياسية وادارة السلطة السياسية والدخول الى تعقيدات صناعة القرار والانطواء أو الانضمام الى مطبخ صناعة القرار وقبول تحمل المسؤولية في رأس الهرم السياسي وعلى الخصوص في البلدان ذات النظم السياسية العقائدية والايديولوجية، لا يمكن قراءته قراءة ادبية ناقدة أو التعامل معه كشأن من شؤون العمل الثقافي المتداول.

فالحكم يعني الحزم، ويعني وحدة القرار واتساق العمليات السياسية المختلفة، ويعني انسجام عمل السلطات، وتعاون الاجهزة، وقبل ذلك وبعده القبول بوحدة المصير.

نعم الاحزاب السياسية والمنتديات الثقافية ومؤسسات المجتمع المدني المختلفة، وفي مقدمتها الصحافة التي باتت بحق بمثابة «السلطة الرابعة» من حيث اهميتها وهيبتها بالطبع لا بالمعنى الذي يحاول البعض ان يجعلها ملحقة بأجهزة الحكم ويطالبها بعد ذلك برعاية اساليب الحكم وضروراته، هي التي من حقها ان ترفض المساومات والتسويات التي يدمن عليها الساسة وارباب السلطة.

في الولاية الاولى للرئيس محمد خاتمي قام بعض الحزبيين والسياسيين المخضرمين وعشاق السلطة السياسية بالدخول الى عالم الصحافة بعنوة السياسي المغرور واقحموها بصراعات وتجاذبات هي في غنى عنها حتى ادخلوها عالم المساومات السياسية وحملوها ما لا طاقة لها في حمله، الى ان سلبوا منها وهجها وابداعاتها المدنية.

بالمقابل فقد تعامل نفس هؤلاء مع السلطة السياسية وانشطة الحكم على كونها ناديا ثقافيا لتداول الرأي وابداء حرية التعبير، مما أثار الكثير من الغموض والابهام والتشويش حول نيات وخطط الرئيس الاصلاحية وسلبوا منه ـ وهذا هو الاهم ـ قدرته أو اقتداره على الحزم وتثبيت وتأكيد الهيبة السياسية.

اليوم ونحن نواكب تشكل الادارة الخاتمية الجديدة والتجاذبات السياسية المحيطة بعهد الرئيس الاصلاحي الجديد في اطار ولاية ثانية واخيرة لا بد ان نقول كلمتنا فيه كرجل مصلح وكلمة الى من لا يزالون يصرون على التدثر بعباءته من دون ان يدركوا معنى الاصلاح في الحكم وفي المجتمع المدني.

لا يختلف اثنان على ان الرئيس محمد خاتمي أجاد في اطلاق طاقات المشاركة السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية لجمهور الرأي العام في ادارة الحكم ومؤسسات المجتمع المدني، كما انه رفع الغطاء وفي الوقت المناسب عن كل ما هو لا يمت للاسلام أو المسلمين من ممارسات لا اخلاقية أو تسلطية أو تعسفية بحق الناس. ادار العملية السياسية بما يحفظ التوازن بين هذا وذاك من دون افراط أو تفريط الى حد كبير. لكنه لم يحزم أمره بعد، وربما لن يستطيع اتخاذ قرار نهائي بخصوص الانتماء لأهل الحكم وارباب السياسة والسلطة أو التمترس في مواقعه الثقافية والفكرية التي اعتاد عليها منذ النشأة الأولى.

ثمة من يعتقد بأن الاداء الحكومي وممارسة السلطة السياسية تتطلب حزما لا يبديه الرئيس بالقدر الكافي لا مع خصومه السياسيين ولا مع اصدقائه وحوارييه.

ليس عيبا على المرء ان يعترف باخطائه وان يتداركها ولو بعد حين، لكن العيب ان تبقى هذه الاخطاء ملازمة له على الدوام من دون ان يتعلم من التجربة، وليس عيبا على الموالين، لا سيما اذا ما انتموا الى جماعة المجتمع المدني، ان ينتقدوا اخوانهم واصدقاءهم وزملاءهم من تبوأوا مراكز السلطة السياسية. فهذا لا ينقصهم بشيء ولا ينقص اخوانهم في شيء.

العكس تماما، فهذا يقوي العملية الاصلاحية ويهذبها ويشذبها قبل ان تحيط بها المخاطر من كل جانب.

الهويات العائمة في مركب الاصلاح لا بد لها من اصلاح، ولا بد لكل شيء ان يأخذ موقعه الحقيقي. الحكم ورأس الهرم فيه وتشكيلات السلطة السياسية عموما، ليست ناديا ثقافيا لتداول الرأي، وعلى الجميع ان يحزم أمره ويقول كلمته في التحولات الجارية بصراحة.