جامعة عمرو موسى.. قاطرة أم مقطورة؟

TT

هل وصلت سفن عمرو موسى إلى الصخور سريعا؟ وهل يجد الامين العام الجديد نفسه الآن عالقا وسط ارخبيل التناقضات والشروط العربية، التي تجعل من تفعيل عمل الجامعة مهمة شبه مستحيلة؟ وهل يحافظ بالتالي على اندفاعته وحماسته، أم ان تراكمات الواقع وترسباته الثقيلة ستجعله يطوي الشرعية ويقبع وسط الارخبيل في انتظار ظروف احسن؟

قد تبدو هذه الاسئلة مفاجئة بعض الشيء ومبكرة بعض الشيء، وقد يقول الكثيرون ان من غير الجائز الاسراع في اطلاق الاحكام أو في جمع الاستنتاجات، وهذا أمر صحيح، ولكن الحديث عن الخلاصات المبكرة في اعمال الجامعة لا ينطلق في سياق اطلاق الاحكام، بل في اطار الحرص على مقاربة بعض الخلفيات، التي تواجه تجربة الامين العام الجديد في تطوير عمل الجامعة، وهذا أمر على مقدار من الاهمية، حيث ان المراهنة كبيرة على عمرو موسى في هذا السبيل.

في 16 أيار (مايو) الماضي تسلم موسى مهماته وسط موجة من التفاؤل في عواصم عربية عدة، بامكان توفير شكل من اشكال وحدة الصوت أو الموقف العربي عبر الجامعة العربية، التي لم يسبق تقريبا ان «جمعت» شيئا أو وفرت اجماعا على شيء، خصوصا ان الظروف الراهنة تبدو في ظل المذبحة الدموية التي تتعرض لها الانتفاضة الفلسطينية، في حاجة حيوية وحاسمة الى حد ادنى من وحدة الكلمة والصف.

بعد أقل من ثلاثة اشهر، وفي السابع من تموز (يوليو) الماضي، كان الامر مثيرا جدا عندما نقلت وكالات الانباء خبرين متلاحقين في غضون ساعة واحدة تقريبا، وهما:

أولاً: خبر من غزة، حيث دعت السلطة الفلسطينية يوم الثلاثاء الماضي الى توفير «حماية عربية» للشعب الفلسطيني بازاء العدوان الاسرائيلي المتمادي. وقال وزير التخطيط والتعاون الدولي نبيل شعث للصحافيين بلهجة لا تخلو من المرارة: «نريد حماية عربية للشعب الفلسطيني بالشكل الذي يرونه مناسبا والاطار الذي يستطيعون عمله»! ثانياً: خبر من القاهرة هو عبارة عن مطالبة الامين العام للجامعة العربية بتوفير «حماية دولية» للشعب الفلسطيني حيث قال: «الاجدى للمجتمع الدولي الذي يلزم مقاعد المتفرجين في وقت يتعرض فيه الشعب الفلسطيني لحرب لا هوادة فيها، ان يتحرك لتوفير الحماية الدولية لهذا الشعب».

طبعا ان الفرق بين مطالبة الفلسطينيين بـ «حماية عربية» (وفق اي اطار وشكل) ومطالبة الجامعة العربية بـ «حماية دولية» ، لا يمثل من ناحية موضوعية اقفال ابواب عمرو موسى على اليأس من إمكان توافر «حماية عربية»، ولكنه قد يشكل مسوغا لبعض الاصوات في المجتمع الدولي كي تطرح عليه نوعا محرجا من الاسئلة ومنها مثلا: «اين هي الحماية العربية للشعب الفلسطيني التي يفترض بالتأكيد ان تسبق الحماية الدولية، على الاقل من منطلق القول الأقربون أولى بالمعروف؟».

وفي أي حال فان الصحافيين الذين نقلوا يوم الثلاثاء الماضي تصريح موسى عن «الحماية الدولية» المطلوبة استدركوا تلقائيا وسألوه عن دور الجامعة العربية في موضوع الحماية، فقال: «انها تقوم بمتابعة مستمرة واتصالات واسعة على المستويين الاقليمي والدولي اضافة الى التشاور المستمر مع القيادة الفلسطينية والحكومات العربية للاحاطة بالموقف الخطير ومحاولة علاجه تجنبا لتداعيات اكبر».

ماذا يعني هذا الكلام، وكيف يمكن بلورته كفعل في سياق موضوع «الحماية» التي نتحدث عنها؟ ليس واضحا قط! قبل ذلك بأسبوع، وتحديدا في بداية تموز (يوليو) الماضي، سجل المدققون في التفاصيل والخلفيات (ونحن منهم) تناقضا صارخا ومثيرا تجاوز حدود تسجيل المواقف المتعارضة الى مستوى الحرص على هندسة هذه المواقف! وتمثل ذلك في خبرين هما:

أولاً: في اول تموز (يوليو) اعتبر الرئيس حسني مبارك انه «ليس من المعقول» التفكير في عقد قمة عربية، وذلك في ختام لقاء مع الرئيس ياسر عرفات، الذي طالب بعقد مثل هذه القمة حسبما افادت وكالة انباء الشرق الأوسط... وقال مبارك: «ليس من المعقول ان نطالب بقمة كلما حدث شيء.. ماذا ستفعل القمة الآن؟ ان المسألة ليست مسألة عقد قمم مصغرة أو مكبرة، وان الاتصالات يمكن ان تحقق نتيجة سواء مع الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي أو الاتصالات مع الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية».

ومن المعروف في هذا السياق ان عرفات قام بجولة على السعودية والاردن وتونس والمغرب للحصول على دعم لمطالبته بعقد قمة عربية طارئة، يرى المراقبون انها لن تكون واقعيا مختلفة عن القمتين السابقتين اللتين عقدتا في القاهرة ثم في عمان.

ثانياً: الخبر الثاني جاء فوراً من الجامعة العربية، بعد اقل من ساعتين على اذاعة تصريح مبارك حول القمة. فقد صدر بيان من الجامعة يقول «ان عرفات لم يطلب عقد قمة عربية (!) انما يجري مشاورات مع القادة العرب للتباحث حول الشكل الذي سيتخذه التحرك العربي في المرحلة المقبلة وما اذا كان ذلك سيكون في اطار قمة أو اجتماع للجنة المتابعة العربية أو التوجه الى مجلس الأمن».

فهل طلب عرفات عقد قمة ام انه لم يطلب؟

ان الأمور في الواقع ليست متوقفة عند حدود افتراض اصحاب النيات الحسنة، بأن هناك حرصا عند الجميع على الالتفات إلى عناصر الجمع، خصوصا عندما يستحيل العثور على مثل هذه العناصر، وقد استحال الأمر بالفعل، عندما قرأ الناس تصريح وزير الخارجية المصري أحمد ماهر بشأن «لجنة المتابعة العربية». فقبل أكثر من شهر وعلى خلفية اجتماع لجنة المتابعة الثالث في القاهرة سئل الوزير ماهر عن رأيه بمقررات اللجنة فقال: «ان ما حدث ان لجنة اسمها لجنة المتابعة اجتمعت بينما كانت الطائرات الاسرائيلية تشن عدوانا ضد المدن الفلسطينية وتقصفها وتقتل الفلسطينيين، فاتخذت اللجنة قراراً في لحظة حماسية يخرج عن نطاقها (...) ليس من سلطة اللجنة اصدار قرارات وبالتالي لا يوجد قرار بقطع الاتصالات مع اسرائيل، ولو وجد فانا لا أعرف به».

ومن المعروف ان لجنة المتابعة كانت قد شكلتها القمة العربية الطارئة التي عقدت في القاهرة في تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي لدعم الانتفاضة، وانها أي اللجنة استثنت مصر والاردن والسلطة الفلسطينية من قرار «قطع الاتصالات» (الاتصالات لا العلاقات) مع اسرائيل، ورغم هذا فقد كانت عرضة لهذا الهجوم القاسي من الوزير ماهر، اذ ليس قليلا ان اللجنة التي تضم عشرة وزراء للخارجية العرب بينهم ماهر نفسه، اضافة الى الامين العام للجامعة العربية، ورد ذكرها على لسانه بهذه الطريقة:

«إن لجنة اسمها كذا...» وكأنه يريد القول انها غير ذات قيمة، وانها من خارج سلطتها قررت في «لحظة حماسية»... ويا للقرار العظيم، ويا للحماسة المنقطعة النظير! ومن المعروف ان الاجتماع الاستثنائي الذي عقدته اللجنة في نهاية ايار (مايو) الماضي كان قد أوصى بـ «وقف كل الاتصالات السياسية.. بين العرب واسرائيل» واجتمعت اللجنة في القاهرة يوم 18 تموز (يوليو) الماضي، بناء على طلب من دول مجلس التعاون الخليجي.

ورغم ان اللجنة شكلت اساسا لتنفيذ قرارات القمة العربية التي صارت دورية، وان مندوب فلسطين محمد صبيح قال ان الدعوة الى عقد الاجتماع الطارئ للجنة يأتي «لاستشعار خطر كبير في المنطقة واحتمال انفجارها» نتيجة مضي حكومة شارون في ذبح الشعب الفلسطيني، فان القرارات لم تتجاوز حدود «إدانة سياسة التصعيد الاسرائيلي» وتوجيه رسائل الى المؤتمرات والمرجعيات الدولية لحثها على اتخاذ مواقف صارمة من الممارسات الاسرائيلية.

وفي عودة الى عمرو موسى، هل نغالي اذا افترضنا ان هجوم أحمد ماهر على لجنة المتابعة انما جاء على طريقة البلياردو، بمعنى توجيه «الكرة الصادمة» مداورة الى امين عام الجامعة العربية، التي تقع عملية جمع الكلمة العربية عند الحدود الدنيا لدورها في اطار مسؤولياته البديهية، خصوصا ان موسى حمل معه كل حيويته وحماسته الى الأمانة العامة؟

لا داعي الى الاجوبة، ولكن بات يمكن الافتراض على الاقل، ان عمرو موسى الذي وصل الى الجامعة العربية حاملا طموحات حماسية كبيرة لتطويرها وتفعيل دورها وتعميق تأثيرها، اصطدم سريعا بالواقع الذي قضى ويظل يقضي ربما، بأن تبقى اطاراً للبروتوكول البارد وبيانات «قفا نبك» وبأن هناك محاذير كثيرة تمنع جعل الجامعة قاطرة تجر 22 عربة على خط واحد قوي ومؤثر، بما يعني ان عليها ان تبقى مجرد «عربة مقطورة» وكبيرة تشكل صالة خلفية للاجتماعات والتقاط الصور والقاء الخطب واصدار البيانات.

قاطرة أو مقطورة؟ تلك هي المسألة بالنسبة الى الامين العام الجديد، الذي يعرف تماما ان الجامعة التي تستظل القاهرة جغرافيا لا يمكنها أو الاصح من غير المسموح لها، ان تظلل القاهرة سياسياً وديبلوماسياً، ولو كإطار قومي جامع.

وهكذا يبدو ان سفن موسى وصلت الى الصخور بأسرع من «سياسة الهرولة» العربية الى التطبيع، التي سبق له ان انتقدها بقسوة!