(الأمن الفكري).. ليس نقيضا لحرية التفكير والتعبير

TT

في الأسبوع الماضي انعقد في السعودية مؤتمر لـ(الأمن الفكري) في رحاب جامعة الملك سعود التي تحتضن كرسي الأمير نايف بن عبد العزيز للأمن الفكري، وهو مؤتمر أثار حوارا واسعا.

ولنبدأ بـ(المتفق عليه)، كأرضية مشتركة للمناقشة والحوار والجدال في هذه القضية المطروحة، قضية (الأمن الفكري):

1. إن حرية التفكير والتعبير (حق) للناس، لا يحل لأحد الاعتساف في مصادرته. فالإنسان بلا حرية تفكير وتعبير يصبح (دابة)، أو جمادا، محض جماد، وإن اختلف عن الجماد بتحريك يديه ورجليه وفمه!!.. والله خالق الإنسان لم يخلقه ليصير دابة ولا جمادا، وإنما خلقه (مفكرا) و(معبرا): «خلق الإنسان، علمه البيان».. والبيان ترجمان الفكر والضمير، ولذا عاب القرآن على الذين يحولون أنفسهم أو يحولهم غيرهم إلى دواب معطلة الحواس والإدراك والفكر والعقل: ((لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون)).

من هنا، فإن حرية التفكير والتعبير حق للناس، لا يحل لأحد الاعتساف في مصادرته.

2. من المتفق عليه، أو ينبغي الاتفاق عليه، أن لكل أمة (أمنها الفكري)، وفق معاييرها ومقاصدها ومصالحها وأمنها الوطني العام.. ودوما تأتلق المفاهيم بضرب الأمثال، فلنضرب مثلين:

أ‌- (الحرب الباردة) مصطلح ساد في العلاقات الدولية لعقود عديدة (منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى مطلع الثمانينات من القرن العشرين).. والحرب الباردة مفهوم مقابل لـ(الحرب الساخنة). فإذا كان وقود الحرب الساخنة هو: الطلقات ـ من أي نوع ـ وكثافة النيران، فإن وقود الحرب الباردة هو (الأفكار والمفاهيم).. وفي معركة الأفكار والمفاهيم ـ بين الاتحاد السوفيتي والغرب ـ نلتقي بظاهرتين: ظاهرة توفير (الأمن الفكري) للأيدلوجية الرأسمالية والشيوعية.. وظاهرة محاولة التدمير المتبادل لأيدلوجية كل طرف في الصراع، بمعنى حرمان الطرف المعادي من (الأمن الفكري) الذي يجتهد في تحقيقه لأيدلوجيته.. نقرأ في كتاب (من الذي دفع للزمار: الحرب الباردة الثقافية).. نقرأ في مقدمة هذا الكتاب ما يدل على وجود الظاهرتين الآنفتين المركبتين: ((ولإحكام الحصار على الشيوعية قامت المخابرات الأمريكية عام 1950 بتأسيس منظمة ثقافية جديد باسم (منظمة الحرية الثقافية)، تحولت في عام 1967 إلى (الاتحاد الدولي للحرية الثقافية)، وقامت هذه المنظمة بإنشاء فروع لها في خمس وثلاثين دولة تم اختيارها بعناية، وأصدرت أكثر من عشرين مجلة ذات تأثير كبير، وقامت بتنظيم المعارض الفنية والحفلات الموسيقية بهدف تحطيم الوعي بالشيوعية عند المثقفين لكي ينسجم الجميع مع الأسلوب الأمريكي للحياة)).. في المقابل نشر الاتحاد السوفيتي شبكة عالمية نشطة عمادها: مراكز ثقافية ومجلات وصحف وأندية وخلايا أحزاب ومنظومات بشرية كبيرة من (دعاة) الشيوعية، و(المحرضين) على الرأسمالية.. لماذا هذا كله؟.. لأجل توفير (الأمن الفكري) للأيدلوجيتين المتصارعتين: الرأسمالية والشيوعية.

ب‌- المثل الثاني لتوضيح مقولة أن لكل أمة (أمنها الفكري) هو: سن قوانين لحماية العلمانية.. وأبرز نموذج على ذلك (قانون حماية العلمانية) في فرنسا.. ومعروف أن العلمانية (فكرة فلسفية) وليست قنبلة نووية ولا رصيدا ماليا. وهذا القانون بمثابة (أمن فكري) لهذه الفكرة المعنوية.

3. من المتفق عليه: أن الأعمال والمسالك البشرية مسبوقة ـ بالضرورة ـ بفكر (باستثناء حالة المجانين التي ليست واردة في طرحنا هذا بداهة).. افتحوا ملف الحضارة الإنسانية، وأحصوا المنجزات البشرية كلها ثم حللوها، وستجدون ـ بلا ريب ـ أن وراء كل عمل عظيم نافع، وكل خطوة تقدمية، وكل سلوك راق (فكرة سديدة مضيئة): من السلام إلى الأمن إلى العمران إلى العلم والتقنية إلى مؤسسات العمل الخيري والإنساني.. في الوقت نفسه ستجدون وراء كل عمل خبيث، وسلوك رديء، وأثر قبيح (فكرة شريرة مظلمة): الفاشية والنازية والسلوك العنصري والظلم والاستبداد والعنف والإرهاب.. إلخ.

للأمن الفكري ـ من ثم ـ أسانيد عقلية وقانونية وعملية وسياسية متفق عليها أو ينبغي الاتفاق عليها، على الأقل سند أن كل عمل بشري مسبوق بفكرة، وأن الجريمة المادية مسبوقة بفكر إجرامي في العقل والتفكير، بيد أنه على الرغم من وضوح هذا الأمر، هناك من يبدي مخاوفه من الأمن الفكري بحسبانه نقيضا لحرية التفكير والتعبير، وهي مخاوف صادرة: إما عن خطأ جسيم في مفهوم حرية التفكير والتعبير.. وإما عن خطأ جسيم في فهم منهج الإسلام تجاه حرية العقل والفكر والتعبير:

أولا: بالنسبة لمفهوم حرية التفكير والتعبير فهو ليس مفهوما مطلقا، بمعنى ليس هناك حرية تعبير مطلقة في دنيا الناس.. مثلا: هل من حرية التعبير ـ المناهضة للأمن الفكري ـ التمكين لفكر العنف والإرهاب بتهيئة مناخ أوسع له؟.. هل من حرية التعبير: سن قوانين تسمح بحرية نشر الخرافة والدجل والسحر والشعوذة وسائر مفسدات العقل البشري؟.. إذا كان الجواب بنعم فهو جواب مجانين لا جواب عقلاء، وليس يحق للمجانين أن يتحدثوا في هذه القضايا.. أما إذا كان الجواب بلا، فإن (لا) هذه هي معيار الأمن الفكري الذي يوفر لعقول الناس الأمن ضد مهددات أمن العقول والأفكار والمفاهيم.

وقد يقال: إن المطلوب ليس حرية التعبير لأهل العنف والإرهاب، ولا لمروجي الخرافة والسحر والدجل، بل المطلوب: حرية تعبير عادية فيما يتعلق بمبادئ المجتمع وفلسفته وقيمه ومصالحه.. ومن حق القائل أن يقول هذا، ثم في السؤال نباهة ووجاهة لعلها تقابل بمثلها في الجواب، وهو أن هذا الشخص الذي يحرص على حرية تعبيره في الأمور المذكورة آنفا يعيش ـ ولا بد ـ في جماعة أو مجتمع، وكل مجتمع يقوم على أسس من المبادئ والقيم، وعلى مقومات مصلحية لا تصلح حياته إلا بها.. وهذه المبادئ والأسس والقيم هي التي تضبط حرية التعبير وترشدها.. وإذا كان ليس من حق المجتمع أن يصادر حرية الفرد في التفكير والتعبير فليس من حق الإنسان الفرد أن يفتئت على المجتمع، بمعنى أن يهدر مبادئه وقيمه وحقوقه باسم حرية التعبير الشخصي.. وعلى كل حال حين يحضر العقل، ويتجرد الضمير من الهوى والكبر، لا يوجد تناقض بين حرية التعبير وبين مصالح المجتمع ومبادئه.

ثانيا: بالنسبة للخطأ الجسيم في فهم منهج الإسلام تجاه حرية التفكير والتعبير، يتعين استحضار المفاهيم التالية:

1) أن الركيزة الأولى لمعرفة الإسلام والدخول فيه والثبات عليه هي (إطلاق حرية الفكر) وكسر الأغلال التي تحبسها وتقمعها.. نعم.. نعم.. 100 ترليون نعم.. نعم الفكر الحر شرط في صحة الإيمان بالله جل ثناؤه، أي أن هذا الإيمان مبني على الاقتناع بالفكري الحر الخالي من كل ضغط وعسف وإكراه، الاقتناع الحر المستمد من النظر الحر في آيات الكون: ((وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)).. وليس يصح الإيمان إلا والعقل حاضر، والفكر ناضر.

2) إن حرية الاجتهاد مكفولة أبدا في الإسلام ـ بشروطها المنهجية ـ ثم لا يحق لأي مجتهد ـ مهما علا قدره ـ أن (يحتكر الحقيقة) ويجعل (وجهة نظره) أمرا مقدسا، ويتعبد الناس برأيه من دون الله، فهذا شرك من الشرك.

3) الناس مؤتمنون على عقائدهم وضمائرهم المستكنة في صدورهم ولا يحل لأحد ـ كائنا من كان ـ أن يتجسس على صدور الناس، ويسارع إلى تكفيرهم. ويقلب الموضوع رأسا على عقب، أي يكون مناط سعيه إخراج الناس من الإسلام بالغصب، بدلا من إدخالهم فيه بالحسنى!!

4) إن المجتمع السعودي ـ وسائر المجتمعات العربية والإسلامية ـ فاتها من حظوظ التقدم ما فاتها، فهي ـ من ثم ـ محتاجة إلى أنهار من الأفكار المبدعة، والمفاهيم البانية، والرؤى اللماحة، والحريات الخلاقة التي تنهض بها النهضة الكبرى في كل حقل.. إن المطلوب هو إطلاق حرية التفكير والتعبير بهدف أن تتفجر الأنهار العلمية والفكرية العذبة الرائقة ويفيض فيضها المكنون، وذلك في ظل القواعد الثلاث السابقة.

وتتجلى ـ ها هنا ـ الوظيفة الأولى للأمن الفكري وهي حراسة هذه النهضة من مخاطر التحجر والتفلت، من الجمود باسم الدين، ومن العبث بالمعتقدات باسم الفكر، من نزعة التجهم للآخر، ومن جموح جلد الذات، من مصادرة حرية التفكير والتعبير باسم مصلحة متوهمة، ومن تقويض أمن المجتمع والدولة تحت عنوان حرية التعبير.

نعم.. إن الوظيفة الأولى الكبرى للأمن الفكري هي: الحفز المعرفي والسلوكي على جمال العلاقة بالله، وجمال العلاقة بالإنسان، وهي تخصيب المجتمع بما يغريه بمزيد من التقدم وما يصون مصلحته المشتركة وأمنه العام.. والوظيفة الأولى ـ في الوقت نفسه ـ هي النشاط الفكري اليقظ الناقض لكل ما يضاد ذلك من سلبيات ونقائض. وهذا تلازم منهجي وضروري، فإن تقرير الحق مقترن دوما بنقض الباطل المضاد له.