الحركة البطيئة في لانغلي

TT

داخل وكالة الاستخبارات المركزية، يطلقون عليها «الحركة البطيئة»، وهو النهج الذي يلجأ إليه الضباط في بعض الأحيان عند تكليفهم بمهام تنطوي على حساسية سياسية، حيث يعمدون إلى تسيير العمل على نحو روتيني، يقتصر على تمرير البرقيات، ويحرصون على الاضطلاع بمهام تبقيهم خارج منطقة الخطر، في محاولة لتأمين أنفسهم.

ومن المحزن القول بأن الوقت الراهن يشهد «حركة بطيئة» داخل لانغلي، بعد كشف النقاب عن مذكرات تحقيق، وصفها أحد الضباط البارزين بالوكالة بأنها: «ضربت الوكالة كما لو كانت سيارة مفخخة بالطريق». ومن جهته، وعد الرئيس الأميركي باراك أوباما، ضباط وكالة الاستخبارات المركزية بعدم تقديم أي منهم للمحاكمة لتنفيذهم أوامر صدرت إليهم على نحو قانوني. ومع ذلك، لا يزال مسؤولو الوكالة الأكثر عرضة للخطر لا يصدقونه، وإنما يعتقدون أن المذكرات فتحت الباب أمام حقبة جديدة من التحقيقات والعقاب.

أما الدرس الذي يحمله هذا بالنسبة للضباط الشباب فواضح تماما، ألا وهو: أن عليهم توخي الحذر وتجنب لفت الانتباه، وتفادي المهام التي تنطوي على مخاطرة سياسية، والبقاء بعيدا عن برنامج مكافحة الإرهاب، الذي أصبح يحمل مخاطر مهنية كبيرة.

والملاحظ أن أوباما حاول بصورة شخصية طمأنة فريق العمل داخل الوكالة خلال زيارته إلى لانغلي. وتحدث على نحو صائب تماما عن الدور السري للوكالة. إلا أن الأمر برمته بدا وكأنه حدث يتعلق بحملة من أجل قضية ما، مع انطلاق صيحات الاستنكار والاستهجان من جانب موظفي الوكالة، في وقت شرع الرئيس في قراءة خطابه من جهاز تلقين إليكتروني، بينما ظهرت خلفه مجموعة من النجوم تمجيدا لشهداء الواجب من أبناء الوكالة. وأوكل أوباما إلى وزير العدل مسألة البت فيما إذا كان ينبغي محاكمة «من صاغوا هذه الأوامر القانونية»، بغض النظر عما يعنيه هذا الإجراء.

وعلى ما يبدو، يتحرك أوباما بناء على اعتقاد لديه بأن باستطاعته تحقيق الأمرين معا ـ أي السماح بالكشف على نحو غير مسبوق عن أساليب العمل التي تنتهجها وكالة الاستخبارات المركزية، وفي الوقت ذاته تحفيز الوكالة التي لا تزال أزهى عصورها «لم تأت بعد»، حسبما قاله موظفوها. ولكن الحياة لا تسير على هذا النحو ـ حتى بالنسبة للشخصيات السياسية الكاريزمية. ربما كان من الضروري كشف النقاب عن المذكرات المتعلقة بالتعذيب، كجزء من حملة طال انتظارها لتعديل صورة أميركا أمام العالم، لكن لا ينبغي أن يتظاهر أحد بأن هذا الإجراء جاء على حساب تكاليف باهظة في الروح المعنوية وكفاءة وكالة الاستخبارات المركزية.

وعليك أن تضع نفسك مكان المسؤولين الذين جرى تكليفهم بالتحقيق مع سجناء تنظيم القاعدة عام 2002. في هذا السياق، أخبرني أحد الضباط السابقين أنه رفض القيام بهذه المهمة، ليس لاعتقاده بأن البرنامج جانبه الصواب، وإنما لإدراكه أنه سينهار في نهاية الأمر. وقال: «علمنا جميعا أن الرياح السياسية ستغير اتجاهها في النهاية». أما الضباط الآخرون الذين لم يقوموا بإجراء حساباتهم على هذا النحو المتشائم والصحيح فيشعرون حاليا بـ«الانهيار والحيرة»، حسبما أوضح العميل السابق.

ومن أجل استشراف ما سيكون عليه الحال في الوكالة خلال الفترة المقبلة، علينا تذكر التداعيات البشعة التي خلفتها الفضائح السابقة، التي تعرضت لها وكالة الاستخبارات المركزية. على سبيل المثال، عام 1995 أصدر مدير الوكالة آنذاك، جون دوتش، أوامره «بتطهير» أصول الوكالة، وذلك في أعقاب الكشف عن وجود صلات سابقة بين الوكالة وفرق موت في غواتيمالا. ورغم أن توجيهات صدرت إلى الضباط بعدم التخلي عن المصادر التي وفرت معلومات استخباراتية قيمة وصحيحة، فإن الرسالة العملية التي حملتها الأوامر في طياتها كانت: «لا تتعامل مع الأصول التي تحمل مخاطر سياسية». وحذر العميل السابق أن رسالة مشابهة يجري تقديمها إلى موظفي الوكالة حاليا.

وفي هذا الصدد، نوه أحد العملاء البارزين المعنيين بمكافحة الإرهاب، إلى أن العملاء الميدانيين يبدون بالفعل حذرا أكبر بشأن استغلال الأدوات القانونية، التي تجيز العمل السري. ومن بين الأمثلة على ذلك ما يطلق عليه مقابلة «مخاطرة القبض»، التي تتم خلال الساعة الأولى من إلقاء القبض على إرهابي مشتبه به. وعادة ما شكلت هذه المقابلة فرصة جوهرية، حيث يخضع المشتبه به لاستجواب صارم، ويجري جمع الاتصالات المدونة على هاتفه الجوال والمواد الموجودة بحوزته بسرعة.

إذا كان أوباما صادقا فيما قاله حول حماية قوة العمل داخل وكالة الاستخبارات المركزية وتفوقها على الصعيد العملي، فعليه التخلي عن فكرة أن بإمكانه إرضاء جميع الأطراف المعنية بهذه القضية. وعليه أن يوصي بوضع حدود على أي تحقيق يجريه الكونغرس، ويرفض المطالب بتعيين مدع خاص. بدلا من ذلك، ينبغي أن يعمل على تنفيذ الخيار المفضل لدى البيت الأبيض ـ تشكيل لجنة قادرة على مراجعة الأدلة خلف الأبواب المغلقة، ثم تقديم تقرير إلى الأمة.

وخلاصة القول إن أميركا ستصبح أفضل حالا على المدى البعيد في ضوء قرار أوباما بإزاحة النقاب عن الممارسات الماضية المرتبطة بالتعذيب، وحظر اللجوء إليها في المستقبل. إلا أنه في تلك الأثناء، تخوض البلاد حربا، ما يجعلها بحاجة إلى توخي الحذر كي لا تتعرض لقدر مفرط من أشعة الشمس يضر بمقاتليها في الظل.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»