عدو عاقل كان أفضل..

TT

قديما قال العرب «عدو عاقل خير من صديق جاهل». تذكرت القول، ومقابله مباشرا أو متواريا، بكل ما أعرفه من لغات العالم وثقافاته، أثناء مناسبة إعلان ميلاد جمعية البريطانيين العرب مساء الأربعاء، في حفل استضافه، في مجلس العموم، النائب العمالي ريتشارد بيردن رئيس اللجنة البرلمانية البريطانية لفلسطين، واستقبال ضيف الشرف وملقي الكلمة الرئيسية وزير الخارجية دافيد ميليباند.

كنت ذهبت للحفل، «ويدي على قلبي» حسب المثل المصري، قلقا من تكرار العرب لأخطائهم التاريخية، وداعيا الله أن يخيب منظمو اللقاء ظني المتوجس، لكنهم، للأسف وضعوا مثلا مصريا آخر موضع التطبيق «جه يكحلها عماها»، وترجمته بالعربية: جاء ليضع الكحل حول العين ليبرز جمالها ففقأ عين الحسناء.

بدا توجسي بقراءة دعوة للمناسبة وصلتني بالبريد من جهة مصابة بالشيزوفرانيا ـ معنويا وليس شخصيا ـ لصدورها عن كل من مكتب جامعة الدول العربية في لندن، وجمعية البريطانيين العرب.

بريطانيون من الجيل الثاني والثالث من مهاجرين عرب، وجيل أول من المتجنسين، يتلقون رعاية وخدمات مقابل ضرائبهم التي جمعتها حكومة انتخبوها ديموقراطيا، يعلنون تأسيس جمعيتهم مؤكدين (أو هكذا ظننت) أنهم مواطنون بريطانيون لا يختلفون في ولائهم للتاج عن أعراق أخرى من أنجلوساكسونيين ونورمانديين وجرمانيين وأفارقة وآسيويين، بنيت على أكتافهم عبر العصور إمبراطورية عظيمة كانت يوما لا تغرب الشمس عنها، هي خطوة طيبة ومطلوبة رغم أنها تأخرت عن تأسيس جمعيات الأعراق الأخرى بعشرات السنين.

أسباب قلقي على مصير الجمعية عديدة، أولها شيزوفرانيا الدعوة. فالجامعة والسفارات العربية تمثل رعاياها من الجاليات (جالية تعني المقيمين مؤقتا، أما الدائمون فمغتربون Diaspora) لكن السفارات لا تمثل العرب البريطانيين الذين يعلنون ميلاد جمعيتهم. فممثلهم الشرعي الوحيد (وأكرر الوحيد) هو النائب/ئبة الذي/تي انتخبوه/ها لمجلس العموم.

أما اختيار وزير الخارجية، المستر ميليباند، ليضيف لسجله الوظيفي شرف إعلان انطلاق جمعية البريطانيين العرب، بدلا من وزيرة الداخلية جاكي سميث، أو وزيرة التناسق والترابط الاجتماعي هيزيل بليرز، فيعطي الرأي العام البريطاني انطباعا بأن إخوانهم في المواطنة من أصول عربية يرفضون الاندماج في المجتمع الذي ينتمون إليه لأنهم جسم خارجي غريب عن المجتمع، ولاؤهم في مكان آخر غير أجسامهم، مما يستدعي تعاملا ديبلوماسيا معهم عن طريق الخارجية.

الانطباع السلبي للدعوة أكده رئيس مجلس إدارة الجمعية بخطابه المطول الممل مركزا على السياسة الخارجية، خصص معظمه لبلدان الشرق الأوسط، والمشكلة الفلسطينية ودور بريطانيا في دعم كفاح الفلسطينيين الخ الخ، وهو أمر ديبلوماسي من اختصاص السفراء العرب ولا مواطنين بريطانيين تصادف أنهم من أصول عربية.

الغريب أن خطاب الإعلان عن الجمعية نسي مضمون المناسبة بتحوله إلى خطاب سياسي دون أن يشير مرة واحدة إلى خطة عمل، أو أجندة نشاط ثقافي أو فني أو اجتماعي تجمع اهتمام أعضائها، أو موعد اللقاء القادم. ولم يكن هناك دفتر لتوقيع الحضور وجمع عناوينهم، أو استمارات عضوية؛ أو حتى طريقة لجمع تبرعات واشتراكات الأعضاء، وهو أمر جد خطير لدى الرأي العام الذي سيتساءل ولا شك عن مصدر التمويل (وأغراض الممول)، في بلد لا يوجد فيه شيء أو خدمة أو حتى مكالمة تليفونية «ببلاش»، أي لم يكن هناك أي مظهر يشير إلى إعلان جمعية مدنية للبريطانيين العرب يفرقها عن لوبي أو مجموعة ضغط سياسية (وهي مجموعات لا تحظى بالاحترام في الثقافة البريطانية).

وقد «عماها» ملقي الكلمة بفقأ عين الجمعية، عندما نسي أهم رمز يؤكد الانتماء لفكرة المواطنة البريطانية. فلا أعرف في تاريخ بريطانيا جمعية مدنية تكونت، خاصة إذا كان الأعضاء من أصول غير أنجلوساكسونية، دون إعلانها الولاء للتاج البريطاني ورفع الأنخاب لجلالة الملكة في ساعة إعلان مولدها.

فقد خلا بيان إعلان تأسيس الجمعية من أي إشارة لولاء أعضائها للتاج البريطاني أو للملكة، وهم رعاياها الذين ستدافع مؤسسات دولة جلالتها عنهم إذا تعرضوا، لا قدر الله، لخطر أو مكروه خارج تراب وطنهم القانوني، أي المملكة المتحدة. أثار ذلك استياء بريطانيين من غير أصول عربية. شعرت بالحرج الشديد عندما جلدتني سياط نظراتهم وهمسات تساؤلهم المهذبة. فالبريطاني يكتم شعوره ويبتسم عند إهانته، أو يهمس لزوجته بسقوط عرب هذه الجمعية في أول اختبار مواطنة؛ فالأجنبي هنا يؤدي قسم الولاء والإخلاص للتاج والعرش أمام محام قانوني كطقس شرطي لمنحه الجنسية البريطانية.

زاد وزير الخارجية الطين بلة باستغلاله الحفل كمنصة بروباغندا للترويج لسياسة حزبه العمالي الحاكم بينما يفترض أنه وزير في حكومة تمثل الأمة كلها بكافة تياراتها وليس مؤيدي حزب العمال فقط، وهم اليوم الأقلية في بريطانيا حسب استطلاعات الرأي التي تشير إلى انخفاض تأييدهم إلى نصف تأييد الشعب للمحافظين.

أما تكرار وزير الخارجية لبروباغندا حكومته العمالية (التي يتوقع ان يمسح الناخب أرض مراكز الاقتراع بها في انتخابات الاتحاد الأوروبي والمجالس البلدية الشهر القادم) عن قائمة ما تقدمه لنصرة الفلسطينيين وقضيتهم، فكان الوجه الثاني لعملة إلقائه كلمة حكومة غوردون براون في احتفال السفارة الإسرائيلية بعيدها الوطني قبل أسبوعين.

واختلط الأمر على وافدين من بلدان عربية حديثي العهد بالثقافة السياسية البريطانية التجمعية التسامحية الشاملة إذ سألوا بريطانيين عربا ناشطين في حزبي المحافظين والأحرار، عن سبب وجودهم في مناسبة أقامها حزب العمال من شدة ترويج الوزير ميليباند لسياسة حكومته من منظور حزبي!

أثار الوزير العمالي استياء لوردات بريطانيين من أصدقاء العرب حضروا المناسبة، بترديده مشروع العمال السياسي باستبدال مجلس اللوردات بمجلس منتخب كاملا على النظام الجمهوري الأمريكي. وقد اعتبر اللورد كوفمان، وهو عضو يهودي في مجلس اللوردات ومن أنصار الحقوق الفلسطينية، اعتبر دعوة ميليباند بشأن اللوردات حماقة لا تغتفر.

فمجلس اللوردات تقليديا، خليط من أعضاء أرستقراطيين بوراثة المنصب، وبعضهم منتخب، وكبار القضاة، ورجال الدين، ومعينين من قبل رئيس الوزراء، وزعيم المعارضة، والقصر (بنصيحة مجلس الاستشارة الخاص) من قادة جيش متقاعدين، وزعماء تيارات نقابية، وأطباء ومعلمين متقاعدين. أي أنه مجلس حكماء الأمة الذي يضع مصلحتها في الاعتبار قبل التنافس الحزبي. فهو ضابط لتهور أعضاء مجلس العموم أحيانا بالبحث عن الصوت الغوغائي في الانتخابات متغافلين الأثر الضار على المدى الطويل.

وأرجو أن تسرع الجمعية الجديدة بإصلاح أخطاء التأسيس والتركيز على نشاطات، غير سياسية، غير حزبية لجمع شمل قرابة 750 ألف بريطاني من أبناء مهاجرين من بلدان عربية، وهم صوت انتخابي تعمل له أي حكومة ألف حساب.