مالك شبل.. والتنوير الإسلامي

TT

إنه لشيء ممتع أن تتصفح مجلة «عالم الأديان» التي تنشرها جريدة «اللوموند» الفرنسية كل شهرين، ويشرف عليها الباحث فريدريك لونوار. فمن يريد أن يطلع على وضع الأديان في فرنسا فليقرأها. فهي تفتح صفحاتها لكبار الاختصاصيين في الموضوع ولكن من وجهة نظر تنويرية عقلانية بالطبع لا تقليدية تراثية أو ماضوية. وفي عددها الأخير طرحت موضوعاً محورياً مهماً للمناقشة هو: علاقة الفلاسفة بالدين أو بالإيمان منذ أفلاطون وأرسطو وحتى اليوم، مروراً بفلاسفة العرب والمسلمين كالفارابي وابن سينا وابن رشد وسواهم. هذا دون أن تهمل فلاسفة اليهود وبالأخص موسى بن ميمون العربي اللسان، وهو أكبرهم في القرون الوسطى. هناك مقابلة مهمة مع ريجيس دوبريه، الذي عاد إلى الاهتمام بالدين بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة ولكن كفيلسوف وليس كمسيحي تائب يعود إلى حظيرة الإيمان من جديد بعد طول ضياع في متاهات المادية الإلحادية واليسار الثوري المتطرف. وهناك مقابلة أخرى مع مالك شبل الباحث الجزائري، الذي أصبح مشهوراً في الساحة الثقافية الفرنسية. والواقع أنه أتحف المكتبة الباريسية بعدة كتب وقواميس وموسوعات في السنوات الأخيرة. وهي كتب تشرح للجمهور الفرنسي العديد من جوانب الحضارة العربية الإسلامية إبان ازدهارها ومجدها وإشعاعها على العالم. نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر: قاموس محب للإسلام، وموسوعة الحب في الإسلام، وموسوعة ألف ليلة وليلة، وبيان من أجل إسلام التنوير، والإسلام والعقل، والإسلام لمن لا يعرف عنه شيئاً، الخ.. وفي هذه المقابلة الجديدة يزف لنا مالك شبل الخبر السعيد وهو أنه قام بترجمة القرآن الكريم. بل ولم يكتف بذلك وإنما أرفق الترجمة بقاموس موسوعي ضخم عن القرآن لكي يسهل فهمه على القارئ الفرنسي وأكاد أقول العربي. فمن الواضح أن من يعرف الفرنسية من العرب سيجد متعة كبيرة في قراءة هذا القاموس لمعرفة كيف يفسر الباحث الجزائري كلمات القرآن الأساسية وكيف يربطها بظروفها التاريخية وحيثياتها في شبه الجزيرة العربية إبان القرن السابع الميلادي. فإذا لم تفهم الآية بالعربي فإن الشرح الفرنسي سيساعدك حتماً على فهمها. وبالتالي فنحن ننتظر صدور هذا القاموس الضخم خلال الشهر القادم لكي نطلع عليه ونستفيد من الإضاءات التي يسلطها على الكتاب المقدس المؤسس للإسلام وحضارته الكبيرة.

في الواقع أن مشروع مالك شبل يندرج ضمن منظوره التنويري الواسع للإسلام. فهو يدرك أن صورة الإسلام تشوهت في الغرب بعد 11 سبتمبر، وهذا ما يؤلمه أشد الإيلام. ولذلك فمن خلال كل هذه الكتب والموسوعات الضخمة يريد أن يقدم الصورة الحقيقية للإسلام وحضارته إلى القارئ الفرنسي بالدرجة الأولى، والغربي عموماً، عساه يغير نظرته السلبية عنا وعن تراثنا وحضارتنا. إنه يحذر الفرنسيين من اختزال الإسلام إلى مجرد دين عنف وتزمت وإرهاب كما تزعم وسائل الإعلام الغربية، التي تستند على التصريحات النارية للفئة الضالة المنحرفة. ولذلك فهو يركز على مظاهر الحب والفرح والفن والجمال في الحضارة العربية الإسلامية. كما يركز على التيارات العقلانية والفلسفية التي أشرقت لفترة من الزمن على العالم قبل أن تجهض وتهزم من قبل التيار الآخر الانغلاقي المعادي للعقل والفن والحضارة. إنه يقدم لنا العديد من الصفحات الجميلة عن بغداد العباسية أو مصر الفاطمية أو إسبانيا الإسلامية: الأندلس. ولا يتحاشى مالك شبل طرح الأسئلة الساخنة والقضايا المهمة، التي تشغل الجميع. وإنه يدعو المسلمين إلى الانفتاح، والتسامح، وأن يكونوا قادرين على أن يتصالحوا مع أنفسهم ومع العالم المعاصر في آن. وللتوصل إلى ذلك يكفي أن نستعيد تلك الصفحات المشرقة من تراثنا والمتمثلة بالشعراء والأدباء الكبار وكذلك بالمعتزلة والفلاسفة والعلماء وكل الإسهام العربي في الحضارة الإنسانية. قلت يكفي وكان ينبغي أن أقول بأنه مهم جداً ويساعدنا على الانطلاق من جديد ولكنه لا يكفي في الواقع. وإنما ينبغي أن نضيف إليه ما استجد من منجزات فكرية وحضارية في أوروبا بعد أن توقفنا عن الإبداع والعطاء ودخلنا في عصر الانحطاط. أياً يكن من أمر فإن استعادة الماضي في وجهه الزاهر تعطينا الثقة بالنفس وتقدم لنا الزخم الضروري للخروج من حالة الإحباط واليأس بغية الانطلاق من جديد.

في نفس العدد من هذه المجلة الفرنسية يطرح مفكر مسلم تنويري آخر هو عبد النور بيدار علاقة فلاسفة الإسلام بالعقل والدين. ويقول بأن الفارابي سبق كانط إلى التنوير عندما قال بأن الدين الصحيح المفيد للإنسان هو الدين المستنير بضوء العقل والفلسفة. وفرق المعلم الثاني عندئذ بين التدين الضال المنحرف الذي يرفض الفلسفة، والتدين الفاضل الصحيح، الذي يستفيد من مناهج الفلسفة. وهكذا صالح بين الدين والفلسفة أو بين الإسلام والعقل كما فعل كانط في كتابه الشهير «الدين ضمن حدود العقل فقط».

من المعلوم أن جريدة «اللوموند» الفرنسية بدأت تنشر مؤخراً مؤلفات كبار فلاسفة الغرب في نسخ شعبية بسيطة سهلة على القراءة وتصل إلى الجمهور العريض كنصوص أرسطو وأفلاطون وديكارت وسبينوزا وكانط وهيغل ونيتشه الخ.. وهي مبادرة ذكية وممتازة. ولا أعرف لماذا لا تقلدها بعض جرائدنا الكبرى فتنشر بعض نصوص كبار فلاسفتنا بعد تبسيطها وشرحها لكي يفهمها القارئ العربي المعاصر؟ من يعرف أن يقرأ ابن رشد في النص الأصلي أو الفارابي أو ابن سينا أو الجاحظ أو التوحيدي أو مسكويه أو المعري الخ.؟ من القادر على فهم رسالة الغفران حالياً؟ حتماً بعضنا ولكن ليس الجميع. وبالتالي فبالإضافة إلى نشرها كما هي ينبغي ترجمة نصوصهم إلى لغة عربية حديثة ميسرة ونشرها على أوسع نطاق لكي تقاوم نصوص الأصوليين المتزمتين التي تغزو الشوارع والمكتبات وتزيد شبيبتنا جهلا على جهل أو انغلاقاً على انغلاق أو استلاباً على استلاب. حقاً إن معركة التنوير العربي الإسلامي طويلة، شاقة، مرهقة، ولكنها ممكنة.