العراق.. هواجس النظام الرئاسي وعرقلات التوافق

TT

ليس صحيحا ما يقال عن أن الأميركيين فوجئوا بالانقسامات السياسية العراقية، فقد اطلعوا على كل وجهات نظر المعارضين العراقيين في مرحلة ما قبل سقوط النظام، التي أظهرت انقسامات لا تقل خطورة وعمقا عما يحصل في العراق الآن. ولم يكن من قاسم يجمع بين المعارضين سوى التخلص من النظام السابق، واستخدام (شعار) إقامة نظام ديموقراطي كوسيلة جذب للأميركيين، لتحقيق مكاسب معينة، خصوصا في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر 2001، التي أصبح خلالها، التصميم الأميركي على الإطاحة بالنظام واضحا.

وخلال ستة أعوام من عمر النظام الجديد، وبرغم ثقل الوجود الأميركي الكبير،لا يزال السياسيون العراقيون بعيدين عن الاتفاق على فهم معقول للأفق الديموقرطي الممكن تطبيقه، من دون أن يكون لمصلحة طرف على حساب آخر. وهو ما عكسته ردود الفعل المتناقضة حول مطالبة رئيس الوزراء العراقي بتفضيل النظام الرئاسي والتخلص من العملية التوافقية المستندة إلى المحاصصة الطائفية والعرقية.

ومع أني لست من مؤيدي فكرة المحاصصة، فلا أنكر كوني من الذين كانوا ينظرون إليها كضرورة ملحة لمرحلة انتقالية، ريثما يمكن تخفيف الاحتقانات الطائفية، وهو ما لم يتحقق كما ينبغي بين السياسيين القدامى والجدد. وقد استبدلت كلمة المحاصصة بكلمة التوافق، بتغيير لفظي لا أكثر.

الديموقراطية تعني حكم الأغلبية، وهو فهم صحيح وثابت لا شائبة عليه، في المجتمعات التي تتمتع بواقع سياسي لا يتأثر باعتبارات دينية وعرقية. فتتكون الأحزاب من خليط غير مقيد من المنتمين يشدهم وازع وطني حاضر، بعيدا عن تركات الماضي. بيد أن العراقيين لا يزالون في حاجة لفسحة زمنية وتفتح حضري للوصول إلى مرحلة كهذه.

وأثبتت التجربة العراقية أن التوافق مصدر عرقلة لقرارات الدولة، وتقييد لسلطة الحكومة والمؤسسات، وبالتالي فإنها تؤثر على عملية البناء، كما تسهم بشكل واضح في تعميق الانقسامات الوطنية بتكريسها التكتلات اللونية وليس السياسية، وهذه هي السمة المتحققة حتى الآن، برغم ظهور استثناءات إيجابية لا تزال ضعيفة، ولم يقبل أحد من السياسيين بالآخر إلا اضطرارا. وببساطة فإن التوافق ولدت من رحم غياب الثقة، والسبب كله يتحمله السياسيون أنفسهم.

ولكي تتحقق الثقة، لا بد من حصول تغيير في الأجندة السياسية، بما يؤدي إلى انفتاح سياسي لتكوين قوائم انتخابية على أساس الانتماء الوطني، وليس ما يسمى اليوم بالمكونات العرقية والطائفية، والقوائم الانتخابية تمثل أقل الطموح المطلوب تحققه، وإلا أن يجري تطبيق الفكرة على الأحزاب، وألا يكون هناك حزب شيعي وآخر سني وثالث كردي.. الخ.

وبحكم الخصوصيات الخاصة، يعترض الكرد بشدة على مفهوم الأغلبية، فيما يبدون أقل تضررا من العرب السنة، لما يتمتعون به من إدارة ذاتية لمناطقهم، وقوة عسكرية كبيرة، ومحافظة على هويتهم، ويحصلون على نسبة كبيرة من الثروة. أما العرب السنة فوضعهم وإن كان أكثر تعقيدا، بسبب الخشية على حرمان مناطقهم من توزيع عادل للثروة، وتقليص نفوذهم إلى ما دون الاستحقاق، وضعف وجودهم في القوات المسلحة، فإن تطور الحياة السياسية يمكن أن ينهي أو يقلص الطروحات الطائفية على المدى البعيد وربما المتوسط. وإذا ما تحققت تطورات إيجابية، ستفرض الأغلبية السياسية وجودها عمليا، ولا أحد يستطيع الوقوف ضدها.

صحيح أن الصلاحيات التنفيذية هي بيد رئيس الوزراء حاليا، خصوصا فيما يتعلق بالملف الأمني، فإن مجلس رئاسة الجمهورية يتمتع بصلاحية نقض القرارات الصادرة من البرلمان، ولا يتطلب القرار إجماعا في المجلس، فللرئيس ونائبيه صلاحيات متساوية بالنقض، وقد مورست هذه الصلاحية فعلا في نقض العديد من القرارات.

ومن بين التعقيدات التي تكتنف طريق إجراء تعديلات دستورية لمواد مختلف عليها، وجود نص واضح يحق بموجبه لثلثي سكان ثلاث محافظات، نقض أي صيغة معدلة للدستور. ومع أن مشاركة العرب السنة في الاستفتاء الذي أجري لتمرير مسودة الدستور، كانت ضعيفة جدا، لاعتراضهم عليه وبسبب ظروف أمنية قاهرة أيضا، فإن التنصل عن الالتزام لم يعد ممكنا. إلا أن الاعتراضات لم تعد عربية سنية فقط، وأصبح التعديل مطلبا لا يمكن تجاوزه.

ونخلص من ذلك إلى أن التوافق ليست إلا مرحلة من مراحل الانتقال إلى الديموقراطية، يشوبها غياب الثقة، ومع مرور الوقت، واطمئنان النفوس، وثبوت حسن النيات، يمكن تطبيق فلسفة النظام الرئاسي، وأن تكون سلطة الدولة محددة بمحطتين، الأولى ما يشرعه البرلمان، أما الثانية، فهي رئاسة الجمهورية صاحبة السلطة التنفيذية بلا منازع.

وتبقى الفاصلة الزمنية المطلوبة بيد الكتل السياسية، كلما تفاعلت إيجابا قلصتها، وكلما بقيت الأجواء على ما هي عليه يبقى المشوار بكل مخاطره طويلا.