السطر الخامس

TT

روى نزار قباني أنه عندما أنهى عمله الدبلوماسي في مدريد العام 1966، ركب باخرة اسبانية أقلته إلى بيروت ومعه كل ما يملك من أثاث. ولما وصل إلى الميناء رحب به العريف الجمركي، وسأله عما معه. فلما أخبره نزار قال العريف إنه كان يتمنى لو كان في إمكانه إعفاؤه من الضريبة الجمركية، لكن ذلك ليس من صلاحياته وإنما من صلاحيات المدير العام، واقترح على الشاعر أن يذهبا معا إليه. ولما دخلا على مكتب الرجل «نهض من وراء مكتبه وأخذني بالأحضان وطلب لي قهوة... وسألني عن شعري أولا... وعن صحتي وأحوالي ثانيا... ثم طرحت عليه مشكلتي بكل طفولة فقال والابتسامة الكبيرة تضيء في عينيه وعلى شفتيه. وهل يحتاج نزار قباني إلى تصريح لدخول بيته؟ إن لبنان هو بيتك كما هو بيت الشعر ولبنان لا يتقاضى رسوما جمركية على الشعر».

ويروي نزار أنه دخل المدينة التي أحبها لكي يتفرغ للشعر وأخذ يشعر «كأنني قصيدة تمشي على الأرض». وقد أحبته بيروت كما أحبها. وكان إذا دخل قاعة لإلقاء قصائده تعربش بيروت على الجدران والنوافذ والشجر لكي تصغي إليه. وفي بيروت كتب «دفاتر النكسة» التي منعته من دخول مصر وأثارت غضب عبد الناصر، فكتب إليه معاتبا، ففتحت له أبواب القاهرة من جديد. وذهب إليها كما ذهب المتنبي في الرحلة الأولى.

وفي بيروت فقد بلقيس حبه الأخضر التينين مثل خضرة الرافدين. وبعدها لم يعد يطيق البقاء في المدينة. لقد أصبح وحيدا مع ذلك الأثاث الإسباني المحفور والمطرز الذي نقله معه معفى من الجمرك على أساس أنه جزء من الشعر وقافية من قوافي الأندلس والشعر الفاحم والعينين الغرناطيتين. وانتقل بكل عالمه إلى لندن، تحرس راحته ابنتاه. وفيما تولت الصغرى حراسة أناقته وحراسة كرامته، تولت الكبرى، هدباء، ملاحقة شؤون النشر والحقوق والأسفار والأمسيات.

كانت هدباء، بحنوها على نزار، أشبه بقصيدته الأولى. وإنه لعالم شديد الفظاظة هذا العالم. فقد ماتت هدباء في نعي صغير من أربعة أسطر في وفيات «النهار». نعاها صديق محام طالبا أن يشارك في الأحزان وفي العزاء. ولم يكن لها سطر خامس.