وكنا في الصف الأول من الجنازة!

TT

في جنازة ابن توفيق الحكيم كنا نمشي إلى جواره في الصف الأول.. عندما سأله الكاتب الكبير حسين مؤنس: كيف شعورك الآن يا توفيق؟ قال: شعور واحد عنده عاهة وسوف يعيش بها حتى الموت..

وبعد سنة انتحر ابن د. حسين مؤنس لأسباب نفسية. وسرنا في الصف الأول عندما سأله توفيق الحكيم: وأنت ما شعورك اليوم؟

فأجاب: ليس عندي شعور واضح، ولكن مشاعري كلها تداخلت فلا أعرف صوتا من صورة من فكر وهلوسة. لقد كان مفتاح الشفرة في حياتي: ابني..

وكأن هذه الإجابة لم تكن كافية فعاد توفيق الحكيم يسأله، وكأنها ندوة علمية وليست جنازة حزينة: تفتكر حالتك هذه كم تستغرق من الوقت؟ فرد حسين مؤنس: الوقت لم يعد له معنى.. فلا وقت عندي. كله مضى وكله يتبدد. ليس عندي قدرة على خلق وقت جديد وزمن جديد. وإذا استطعت فلا عمر. وإذا كان عمر فلم يعد ضروريا لأنه بلا معنى!

والتفت توفيق الحكيم يقول لي: إن الله يحبك أنت وأستاذك العقاد: لا أولاد ولا بنات.. لا وجع قلب..

وكأن توفيق الحكيم ليس في جنازة فاقترب وقال في أذني: العقاد يحب الكلاب تعويضا عن الأولاد. فلما مات كلبه رثاه بقصيدة عنوانها (بيجو) طبعا فاكرها..

ود. حسين فوزي لم ينجب أولادا وكذلك د. لويس عوض.. ولا النحاس باشا ولا سعد زغلول باشا. ويقول توفيق الحكيم: لقد وجدوا تعويضا كبيرا. لأن حسين فوزي ولويس عوض كانا يربيان أكثر من مائة قطة في البيت. والنحاس باشا وسعد باشا احتضنا الملايين من الأبناء والبنات من الشعب، وإذا كان الشعب وهماً عظيماً فإن الأولاد حقيقة مؤلمة..

ويقول الحكيم: والفلاسفة سارتر وهيدجر وعبد الرحمن بدوي قد أكرمهم الله فحرمهم من عذاب الأولاد وهوان الدنيا.. ويقول توفيق الحكيم ونحن في الجنازة: تعرف لو العقاد عنده ولد أو بنت لهدت حيله وكسرت قلبه وجعلته أقرب إلى الأرض. ولكن العقاد عملاق واقف على رجليه حرا وحيدا فلا وجيعة ولا عاهة. حتى طه حسين رغم أن ابنه الوحيد مؤنس كان يعيش في باريس ويكاد يكون فرنسيا تماما، فلم يعطه فرصة أن يكون أبا.. فكان لا يسأل عنه ولا يبدي أي رغبة في أن يلقاه.

سألت توفيق الحكيم: هل تترحم على ابنك إسماعيل. فقال: لا.. إنه لم يرحمني.. إنه مصدر عذابي.. ويجب أن يأخذ ما يستحقه من عذاب النار وغضب والده!