من سجلات أوهامنا

TT

الأوهام جزء أساسي من تراثنا وتربيتنا. ونراها ترتع بصورة خاصة في مثقفينا. بل ويعيش عليها الكثيرون منهم. من ذلك وهم الوحدة العربية. كم من رجال بنوا مستقبلهم عليها وتسنموا السلطة وكسبوا الكثير. اشتروا عمارات وفيلات وقضوا حياتهم في بحبوحة من العيش بفضل متاجرتهم بوهم الوحدة العربية.

وهم آخر اكتشفته مؤخرا، إنه الاعتقاد بأن الانتخابات والديمقراطية البرلمانية ستحل كل مشاكلنا. عبر عن هذا السيد نوري المالكي، رئيس الحكومة العراقية، في حديثه معنا، نحن أبناء الجالية العراقية، خلال زيارته الأخيرة لبريطانيا. قال إن المحاصصة فاشلة والطائفية قاتلة والتوافقية عقيمة وكل ما يرتبط بها من المشاكل ستحلها الانتخابات.

السيد المالكي رجل قدير وعارف وأنجز الكثير لبلده خلال حكمه للعراق. ونتوقع منه المزيد. ولكن ميله للاعتقاد بأن الانتخابات ستحل كل شيء ينطوي على كثير من البساطة، وربما يهدد الأمن والاستقرار في العراق.

لا بد أن نعترف بأنه وهم وقع به الغربيون أيضا. عانى العراق والكثير من الدول من دكتاتورية الأقلية. بيد أن للأكثرية أيضا دكتاتوريتها. معظم المشاكل الدموية الجارية في العالم تعود لدكتاتورية الأكثرية التي يلبسونها بلباس الديمقراطية والانتخابات والاستفتاءات. هذا ما جرى في آيرلندا الشمالية وسيريلانكا وإسبانيا ويوغوسلافيا والسودان والفلبين وسواها من الدول.

يعود الكثير أيضا من المشاكل الاجتماعية الداخلية لطغيان الأكثرية. التمييز ضد المرأة يعود لوجود أكثرية ذكورية في المجلس. كذا كان الحال بالنسبة للتمييز ضد السود والغجر واليهود والكاثوليك والمسلمين في الدول الغربية. اكتشفوا الآن أن مجرد الوجود الشرعي لحكم الأكثرية والمساواة القانونية لا يحل المشكلة. نجاح التعددية وتكامل المجتمع ووحدة الأمة يتطلب مصالحة الأقليات وترضيتها، بإعطائها أحيانا أكثر من حقوقها القانونية. مثل ذلك مثل الأب الذي ينشد مصالحة ابنه «الزعلان». هكذا ولدت فكرة التمييز الإيجابي positive discrimination. أصبحوا يفضلون المعاق على الصحيح، المرأة على الرجل، الأسود على الأبيض، وهكذا. قاضى بعض الإنجليز البيض الحكومة بتهمة العنصرية بتفضيل مواطن أسود عليهم. طبق صدام حسين هذه السياسة أثناء محاولة توطيد السلام في كردستان. أخذوا يفضلون الكردي على العربي في الوظائف والحقوق.

يرى الكثيرون أن الحصول على أكثرية ساحقة في المجلس خطر على الديمقراطية. الأفضل للبلاد وجود أكثرية صغيرة في المجلس تقابلها معارضة كبيرة. فهذا يحول دون طغيان الأكثرية واستهتارها بالبلد ككل.

لقد أظهر العراقيون قدرة مشكورة في تعاملهم مع عملية الانتخابات والمنافسة الشرعية واحترام التعددية والرأي الآخر. الأمل ما زال معقودا في أن يصبح هذا البلد مثالا يحتذى في الشرق الأوسط. بيد أن عليهم أن يتذكروا كلما تخبطت ديمقراطيتهم وأساء ممثلوهم مراكزهم وسلطتهم وطغت أكثريتهم، ما قاله تشرشل: نعم. الديمقراطية نظام سيئ، ولكن كل الأنظمة الأخرى أسوأ منه.

www.kishtainiat.blogspot.com