القمر والجسر

TT

كان المسرح الغنائي الرحباني بحثا عن السعادة. القرية هي المكان والناس هم صورة الزمان. وهما لا يحاولان تغيير أي شيء في هذا المكان الخلاب، لكنهما يريدان مصالحة الناس، إزالة الغضب، رفع العتب، نشر المحبة. أما المكان، أي القرية التي هي لبنان، فلا تمسوا جمالها: قرية سيدها القمر في كل المسرحيات، وجسرها «جسر القمر»، وها هو يشرق، يبدد الظلام ويدحر العتم ويقهر الليالي:

نحنا ما عنا حجر ولا مزارع ولا شجر

انت وانا يا حبيبي بيكفينا ضو القمر

قمر وأعياد وحصاد وغلال وخير في الانتظار. لا قرية من دون عيد: «ما بيسوى ضيعة بلا عيد». لأن العيد يجمع المتخاصمين والمتقاتلين. ويأتي المهنئون من القاطع الآخر، من الجهة الأخرى للوادي، أو للنهر، ويذهب المهنئون من هنا أيضا. وتضاء القناديل على مدى أنوارها الشاحبة ويلتقي العشاق عند «العين» بخفر، فيما يتولى السيد القمر أن يضيء لهم الدرب في أوائل الغياب. وعندما أرادا تعظيم الأمير فخر الدين المعني، هتفت له فيروز تغني:

يا قمر مشغرة يا بدر وادي التيم

بنى الرحبانيان من معالم القرية الماضية قرية افتراضية ليس فيها سوى نهايات سعيدة مهما تعقدت البدايات أو صعبت. زرعا في ذاكرة اللبنانيين تاريخا ملونا، فصوله خناق وختامه حكمة. وكلما مر اللبنانيون في محنة وجودية، وما من زمن ولم يمروا فيه بمحنة وجودية، كلما تذكروا حكايات الرحبانيين، أو شهرزاد المعاصرة، أو كليلة ودمنة الحديثة. وكلما بحثوا عن أنفسهم في تلك المسرحيات الغنائية وعن الأدوار التي تشبههم أو يشبهونها.

اليوم نتذكر القرية الرحبانية ولبنان الذي حلموا به برغم الوقائع التي يروونها. وكنت أسأل منصور الرحباني دائما إن كان يصدق أحلامه في اللبنانيين. وكان جوابه دائما: وماذا إذا توقفت عن الحلم واقتنعت أن هذه الحقيقة نهائية وقاطعة؟

وكان يصرفني بيديه الضخمتين عندما أروي له مختصر تاريخ لبنان كما أراه، وليس كما رواه المؤرخ كمال الصليبي في كتاب تحت هذا العنوان. كنت أقول له إننا نشبه فقط حكاية تيسي الماعز التي تعلمناها صغارا. فقد التقى التيسان فوق جسر ضيق، فرفض الأول أن يترك الثاني يمر ورفض الثاني أن يترك الأول يعبر، فتعاركا وتقارنا وظلا يتناطحان ويتدافعان إلى أن هوى كلاهما في النهر.

وقد كان الحل غاية في البساطة: أن يمر الأول ثم يمر الثاني. أو العكس أيضا. لكن الحلول البسيطة لا ترضي التيوس.