اصطياد راتنر

TT

قبل أن نقرر ما إذا كنا سنشنقه أم نقطع رأسه، أعتقد أنه يمكننا أن نتفق جميعًا حول أن ستيفن راتنر - رجل الرئيس الأميركي باراك أوباما، المسؤول عن إنقاذ صناعة السيارات الأميركية - بريء تمامًا. وقد كتبت صحيفة «وول ستريت جورنال» تحت عنوان رئيسي «تورط راتنر في تحقيق عن الأموال المدفوعة» أنه «لم يتم اتهام راتنر أو كوادرانغل (شركته الاستثمارية السابقة) بالقيام بأي فعل مشين». وفيما أشارت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن «التحقيق حول المعاشات الحكومية يشهد فضيحة متنامية»، أطل علينا موضوع آخر بنفس الصحيفة يقول «ما من مؤشر.. بأن راتنر يواجه اتهامات جنائية أو مدنية». وأعلنت الصفحة الافتتاحية لـ«وول ستريت جورنال» تحت عنوان «التحقيق بشأن المعاشات الحكومية»، أنه «ما من دليل عام يفيد خرقه لأية قوانين»، وذلك قبل أن توصي بنقل صناديق معاشات الموظفين الحكوميين بعيدًا عن متناول «المسؤولين السياسيين»، وتسليمها إلى القطاع الخاص.

أما المقترح الأخير، فهو درس ينطوي على قدر خاص من الغباء، بالنظر إلى أن فضيحة «المال مقابل النفوذ» المزعومة نتجت عن تحويل مسؤولية اتخاذ القرارات الاستثمارية من الموظفين الحكوميين إلى الشركات الخاصة. ويتركز الاتهام - إذا كان هناك اتهام في الأساس - في أن هذه الشركات، مثل شركة راتنر، دفعت رشاوى للمشاركة في هذا الأمر.

من ناحية، يبدو هذا الاتهام صحيحا تمامًا، حيث اعتادت شركات، مثل «كوادرانغل»، دفع أموال لأفراد لهم اتصالات وعلاقات سياسية، في إطار سعيها وراء الحصول على جزء من كعكة صناديق المعاشات العامة. وماذا تظنون الهدف من وراء هذه الأموال، إنْ لم يكن التأثير على الأفراد المعنيين باتخاذ القرارات؟. وقد يتخذ هذا التأثير طابعا غير مباشر إلى حد ما، وذلك على سبيل المثال، من خلال خلق أواصر صداقة مع صانع القرار، أو الاستثمار في فيلم تافه من أجل شقيقه (وكلا المثالين حقيقيان في هذه القضية)، ولكن في النهاية، دومًا ما يكون الهدف الحقيقي وراء هذا.. الوصول إلى مسؤول عام، فليس هناك أي طائل وراء التأثير على أفراد لا يملكون سلطة اتخاذ القرار.

ولكن عند نقطة ما، يوجد خط تتحول عنده الرشوة القانونية إلى أخرى غير قانونية. ولن يندهش أحد ممن يعلمون راتنر (الذي كان مراسلا في «نيويورك تايمز»، ومن المعروف عنه طموحه) إذا ما اتضح لهم أنه كان يصول ويجول قريبا من هذا الخط. بيد أن الجميع - بما فيهم راتنر ذاته - سيشعرون بالدهشة إذا ما اتضح أنه تجاوز هذا الخط.

ولكن، أين هذا الخط تحديدا؟. يرى البعض أن الفضيحة تتعلق بما هو قانوني، وعليه، فإنه لا أهمية لمثل هذا الخط على الإطلاق. إن المشهد جدير بالازدراء بنفس القدر على كلا الجانبين. ويقولون أيضًا (في واحدة من الملحوظات المبتذلة التي يكثر ترديدها داخل كليات القانون): «الجهل بالقانون ليس عذرًا»، بمعنى أنه لا يمكنك النجاة من تكبد مخالفة تجاوز السرعة، حتى وإنْ كنت على يقين بأن حد السرعة المسموح به يبلغ 120 ميلا في الساعة. ولكن، ألا يتعين على القانون أن يوفر نوعا من الإرشادات بهذا الشأن، مثل تلك العلامات على الجبال المتراكم عليها الثلوج التي تحذرك بأنك دخلت نطاق انهيار جليدي؟. من ناحيتها، قالت «واشنطن بوست» إن الأموال التي يجري دفعها للمشاركة في النشاطات التجارية المرتبطة بصناديق المعاشات تعتبر «ممارسة شائعة داخل هذه الصناعة، وغير مجرمة». ثم أفادت بعد ذلك «وطبقًا لأشخاص على دراية بالقضية، أن السلطات تحقق فيما إذا كانت «كوادرانغل».. تورطت في مخطط لدفع مال مقابل كسب نفوذ للحصول على استثمارات صناديق المعاش التابعة للدولة». أين الاختلاف إذًا؟.

وشرحت «نيويورك تايمز» أن «لب القضية يكمن في الأموال التي دفعتها شركات الاستثمار، التي كانت تسعى وراء الاضطلاع بنشاطات تجارية مرتبطة بصناديق المعاش. وتعتبر مثل هذه الأموال قانونية، ما لم يتم استغلالها بصورة مباشرة أو غير مباشرة لرشوة مسؤولين يشغلون مناصب عامة»، هل فهمتم الآن؟. ليس بعد؟.

في الواقع، بذلت «وول ستريت جورنال» محاولة في هذا الصدد، حيث شرحت أن: «القضية القانونية الرئيسية المرتبطة بالشركات الاستثمارية تدور حول ما إذا كانت تعلم، أو كان ينبغي أن تعلم، أن الأموال التي دفعتها لكيانات معينة على صلة بصندوق نيويورك مشروعة، أم شكلت رشاوى غير مقبولة».

ومن ناحيته، أعرب هنري بلودغيت، المسؤول السابق بإحدى الشركات المعنية بشبكة الإنترنت، والذي يعمل معلقا في الوقت الحالي، عن اعتقاده بأن هناك اختلافا جوهريا بين ما إذا كان عرض رشوة جاء قبل أو بعد تلقي وعداً بصفقة ما، وهو تعريف ممتاز، لكنه يفتقر إلى أدنى تمييز واضح بين ما هو جائز، وما هو فاسد.

وموجز القول.. إنه لا يبدو أن أحدا لديه فكرة حول موقع هذا الخط على وجه التحديد. ويمكنك القول بأن هذا الغموض أمر جيد، إذا ما كان من شأنه دفع الناس بعيدا عن منطقة الانهيارات الجليدية. وفي الواقع، لا يساورني أدنى قلق حيال إمكانية أن أكون قد عرضت رشوى دون قصد على مسؤول عام، وربما ينطبق القول ذاته عليك. في الواقع، ليس من الصعب تجنب هذا الخطر، إذا لم تكن لديك رغبة في إدارة أحد صناديق المعاشات العامة. على الجانب الآخر، يخول هذا الغموض قوة هائلة للوكالات الحكومية والمدعين العموميين على مستوى الولايات، لانتقاء الأهداف التي تحلو لهم، وتفسير القانون بما يوافق هواهم.

تشير الأرقام إلى أن «كوادرانغل» دفعت 1.1 مليون دولار لتولي إدارة 100 مليون دولار من أموال المعاشات، وهو مبلغ ضخم. ولا بد أن راتنر وشركته ساد لديهما اعتقاد بأن بإمكانهما تعويض هذا المبلغ على الأقل عبر العائدات السوقية. وعليه، فإن السبيل الأمثل للقضاء على الفساد في إدارة صناديق المعاشات التابعة للدولة يتمثل في جعلها نشاطا غير مدر للربح، الأمر الذي ينطبق على كافة المجالات الأخرى.

*خدمة «واشنطن بوست»