الترويج للاقتصاد صديق البيئة

TT

لا شك أن من أكثر الأمور جاذبية في عالم السياسة أن تجني منفعة دون مقابل. وفي الوقت الذي شرع فيه الكونغرس في دراسة صياغة تشريع لمكافحة ظاهرة ارتفاع درجات حرارة الأرض، يؤكد أنصار حماية البيئة أن باستطاعتنا قهر هذه الظاهرة، دون تكلفة تذكر. في هذا الصدد، يؤكد «صندوق الدفاع عن البيئة» أنه: «مقابل قرابة عشرة سنتات يوميا (للفرد)، يمكننا حل مشكلة التغييرات المناخية والاستثمار في طاقة مستقبلية نظيفة، وتوفير مليارات الدولارات الموجهة لاستيراد النفط». ويعد هذا هو الادعاء التقليدي الذي يردده أنصار حماية البيئة بوجه عام.

بيد أن هذا القول يبدو رائعا لدرجة تثير الشكوك حول صحته. في الواقع، تأتي أربعة أخماس الطاقة التي يستهلكها العالم والولايات المتحدة من أنماط الوقود الحفري ـ النفط، والفحم، والغاز الطبيعي ـ والتي تمثل كذلك أكبر مصدر لغاز ثاني أكسيد الكربون من صنع الإنسان، وهو الغاز الرئيسي المسبب لظاهرة الاحتباس الحراري. وترمي الجهود الجارية حاليا إلى الحد من استخدام أنماط الوقود الحفري، أو القضاء على انبعاثاتها من ثاني أكسيد الكربون. ويفرض مشروع القانون المطروح أمام مجلس النواب حاليا تقليص انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري بنسبة 42% بحلول عام 2030 عن المستويات التي كانت عليها في عام 2005، والوصول بنسبة الانخفاض إلى 83% بحلول عام 2050.

وتبدو مساعي إعادة توجيه نظام الطاقة العالمي أشبه بمهمة مستحيلة. مثلا، لننظر إلى احتياجات أميركا من الطاقة في عام 2030، حسب تقديرات إدارة معلومات الطاقة، ذلك أنه مقارنة بعام 2007، من المتوقع أن يشهد عدد سكان الولايات المتحدة ارتفاعا بنسبة 25% تقريبا (375 مليون)، وأن يتنامى الاقتصاد بنسبة 70% تقريبا (20 تريليون دولار)، إضافة إلى زيادة أعداد المركبات الخفيفة المهام بنسبة 27% (294 مليون). وعليه، سيكون الطلب على الطاقة قويا.

وتفترض إدارة معلومات الطاقة تحقيق مستوى أعلى من ترشيد الاستهلاك والاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة. وتشير توقعاتها إلى تنامي الاعتماد على الطاقة الشمسية بمعدل 18 مرة، وعلى طاقة الرياح بمعدل ست مرات خلال الفترة بين عامي 2007 و2030. وتتميز السيارات والشاحنات الخفيفة الجديدة بمستوى استهلاك أفضل للوقود بالنسبة للمسافة المقطوعة، يبلغ 50%. في الوقت ذاته، هناك تحسن على صعيد ترشيد استهلاك الوقود فيما يخص المصابيح الكهربائية الخفيفة وأجهزة الغسل. من ناحية أخرى، فإن أسعار الطاقة المرتفعة تثبط الاستهلاك. جدير بالذكر في هذا الصدد أنه بحلول عام 2030، سيصل سعر برميل النفط إلى 130 دولارا، قياسا بالقيمة الحالية للدولار. ورغم كل ما سبق، من المتوقع أن تبلغ انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في عام 2030 من الولايات المتحدة 6.2 مليار طن متري، أي أعلى بنسبة 4% عن عام 2007. وفي تلك الفترة، ستبقى الحصة التي تسهم بها طاقتا الشمس والرياح في إنتاج الطاقة الكهربائية عند مستوى 5% فقط، نظرا إلى أنه يتحتم التوسع فيهما.

ومن أجل التوافق مع بنود مشروع القانون المطروح أمام مجلس النواب في الولايات المتحدة، سيتعين الوصول بمعدل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون إلى حوالي 3.5 مليار طن. وتعتمد ادعاءات «صندوق الدفاع عن البيئة» والمنظمات الأخرى المعنية بالبيئة حول إمكانية تحقيق هذا الخفض بتكلفة زهيدة على برامج محاكاة اقتصادية ترتبط بنماذج «التوازن العام». يذكر أن دراسة وضعتها «وكالة الحماية البيئية»، قدرت أن التكلفة لن تتجاوز 98 دولارا اميركيا فقط بالنسبة للأسرة سنويا، نظرا إلى أن أسعار الطاقة المرتفعة تكافئها بصورة جزئية تخفيضات حكومية. ومع وجود 2.5 فرد في المتوسط بكل أسرة، فإن ذلك يعادل 11 سنتا يوميا للفرد.

وتكمن المشكلة الكبرى في أن مثل هذه المخططات تنطوي على افتراضات غير واقعية على الإطلاق، وهي عدم وجود دورات في النشاط التجاري، وأن الاقتصاد دوما يتميز بمستوى صفري في البطالة، بالإضافة إلى الافتراض بتحقيقه نموا قويا، بناءً على معدلات النمو الماضية، وأن الاقتصاد يستوعب على نحو تلقائي التحولات الكبرى، وأنه حال ارتفاع أسعار الوقود الحفري (كما سيحدث قطعا في ظل قوانين مكافحة ظاهرة ارتفاع درجات الحرارة)، سرعان ما سيحد المستهلكون من معدلات استهلاكهم؛ وتظهر إمدادات جديدة من موارد «الطاقة النظيفة» على نحو سحري.

وعليه، يرى أعضاء هذا الفريق أنه لا توجد مشكلة، وأن تكاليف التحول ستكون ضئيلة، لمجرد أن المخططات والنماذج الاقتصادية التي يعتمدون عليها تقول ذلك، لكن الوضع على أرض الواقع مختلف بالتأكيد، حيث نجد أن نصف ما تستهلكه بلادنا من طاقة كهربائية يأتي من الفحم. أما تكاليف حبس الانبعاثات الكربونية وعزلها ـ أي دفن غاز ثاني أكسيد الكربون في باطن الأرض ـ فغير مؤكدة بعد، وحال عدم توفير هذه التقنية بأسعار تجارية مناسبة، ستستمر مصانع الفحم في إطلاق انبعاثاتها الكربونية، أو ربما يصبح من الضروري استبدالها بمفاعلات نووية. لكن التساؤلات التي تفرض نفسها على هذا الصعيد هي: هل بإمكان الولايات المتحدة الأميركية تحمل تكاليف زيادة إنتاجها من الطاقة النووية بمقدار ضعف أو ثلاثة أضعاف؟. هل يمكن التغلب على العقبات الفنية والأخرى المرتبطة بالبناء في توقيت مناسب؟. جدير بالذكر أن تعطل العمل بمثل تلك المفاعلات قد يسفر عن انحسار في إمدادات الطاقة، أو توقفها تماما، ما سيضر قطعا بالنمو الاقتصادي.

والمؤكد أن مشكلات عملية لا حصر لها ستظهر أمام مساعي تحويل مسار الاقتصاد الأميركي بعيدا عن مستوى اعتماده الراهن على صور الوقود الحفري. يذكر أن أحد التقديرات التي وضعها خبراء اقتصاديون بمعهد ماساتشوسيتس للتقنية توصلت إلى أن تلبية معظم احتياجات قطاع النقل في عام 2050، اعتمادا على الوقود الحيوي المنتج محليا يتطلب زراعة «500 مليون أكر من الأراضي الأميركية ـ ما يفوق إجمالي المساحة المنزرعة حاليا داخل الولايات المتحدة». وسيتعين على الولايات المتحدة التحول إلى مستورد صاف للمواد الغذائية.

في واقع الأمر، تتسم المخططات والنماذج الاقتصادية بسجل مظلم فيما يخص التوقع بالتقلبات الاقتصادية الكبرى، أو تداعياتها، ذلك أنها عجزت، على سبيل المثال، عن توقع الأزمة الاقتصادية الراهنة. كما لم تتوقع ارتفاع أسعار النفط إلى ما يقرب من 150 دولارا للبرميل. وفي السبعينات، فشلت في التوقع بحدوث تضخم جامح. ورغم إمكانية الاعتماد على نماذج «التوازن العام» للمساعدة في تقييم المقترحات المختلفة بالنسبة للسياسات الواجب اتباعها من خلال المقارنة بينها، اعتمادا على خط قاعدي مشترك، فإنها غير مؤهلة لإطلاعنا على الصورة التي سيكون عليها الاقتصاد بعد 10 أو 20 عاما، نظرا لأن الكثير من العناصر يجري افتراضها أو تجاهلها، مثل معدلات النمو، والأزمات المالية والجيوسياسية، وارتفاع معدلات البطالة أو التضخم بصورة بالغة.

مما سبق يتضح أن الترويج لفكرة الاقتصاد صديق البيئة تستلزم ما هو أكبر بكثير من مجرد الأماني الاقتصادية. والملاحظ أن أنصار حماية البيئة لا يعمدون إلى المبالغة في أخطار ظاهرة ارتفاع درجات حرارة الأرض فحسب ـ من رفع منسوبات مياه البحار، وحتى تأجيج الأوبئة ـ وإنما يعملون أيضاً على تقليص تكاليف التعامل مع هذه الظاهرة بأكبر قدر ممكن. والحقيقة، أنه ليس هناك من المشاركين في هذا النقاش مَنْ هم على علم تام بالتداعيات أو التكاليف، وإنما يعتمدون جميعا على نماذج غير موثوق بمصداقيتها. وبذلك يتضح أن خططا كبرى لإعادة التوجيه الاجتماعي والاقتصادي تجري صياغتها بناءً على أسس معرفية متداعية.

*خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ(«الشرق الأوسط»)