توفيراً لمزيد من الفتن.. الحل الإقليمي يبدأ من فلسطين

TT

«الخط المستقيم أقصر مسافة بين نقطتين»

(مبدأ هندسي)

خلال هذه الفترة الحرجة من عمر الشرق الأوسط، أي الفترة التي أفرزت حكومة أقصى اليمين الإسرائيلي، وقد تهدينا بعد شهر تقريبا انتصارا مقابلا لأقصى اليمين الإيراني، على أساس أن التطرف يولّد التطرف... يقف لبنان على شفير هاوية.

فبالإذن من الرئيس نبيه برّي، رئيس مجلس النواب اللبناني... باق من عمر لبنان كما نعرفه أسبوعان اثنان!

أسبوعان اثنان فقط، إذا ما حصل الانقلاب السياسي واستعاد السلطة «رسمياً» من أبعِدوا عنها عام 2005. وذلك لأن حتى لبنان الرّمادي، التعدّدي، الضائع المعايير، الفاقد البوصلة، بكل مساوئه... يختلف تماماً عن لبنان «الممسوك» سياسياً وأمنياً بقبضة أقوى تنظيم ثيوقراطي في العالم العربي اليوم.

وطبعاً النائب ميشال عون، كذلك، لا يوافقني الرأي لأنه منذ انقلب على نفسه... دأب على إقناع شارعه ـ الطائفي حتى النخاع ـ بأن الشحم الذي يعِده به في عملية تسمينه لا علاقة له البتة بوضع الخروف المسمّن وقدوم عيد الأضحى. وهو منذ توقيع وثيقة تفاهمه مع «حزب الله» يوهم هذا الشارع بأنه «شريك فعلي» له حق «الفيتو» على تصرّفات «الحزب» وسياساته. مع أن من يعرف شيئاً عن ثقافة «الحزب» ومبادئه ـ بالذات من خلال ما قاله وكتبه قادته ـ يدرك أن القرار النهائي ليس في يد قيادته اللبنانية بل عند «الولي الفقيه» في إيران.

وخلال الأسبوع الماضي خرج من فم عون وصهره و«ولي عهده» الوزير جبران باسيل موقفان يدلان دلالة ذات مغزى على منظور العونيين لعلاقتهم بـ«الحزب»، ضمن «زواج» المصلحة من جانبين لا يجمع بينهما إلا مفهوم «عصمة إماميهما» المسلم والمسيحي، واتفاق هذين «الإمامين» على ضرب «اتفاق الطائف» والنظام الديمقراطي في لبنان.

عون، خلال استقباله وفداً من المهجّرين المسيحيين في جبل لبنان، أثار مسألة «سلاح الدروز»، الذي اعتبر أنه يساهم بتعطيل عودتهم إلى قراهم ولكن لا يعترض عليه أحد من أولئك الذين يتعرّضون يومياً لسلاح «حزب الله». والخطير في هذا الكلام ليس انعدام دقته وتناسبه في وصف سلاح فردي محدود ظهَر للدفاع عن النفس يوم 7 مايو (أيار)، بل في دغدغة الغرائز الطائفية عند المسيحيين بأن سلاح «حزب الله» ضروري في يوم من الأيام لإعادتهم بالقوى إلى الجبل بعد إلحاق الهزيمة بالدروز وإخضاعهم، وربما تهجيرهم. وهذا هو المعنى الذي لا يمكن لعون إنكاره أو إغفاله... عند أخذ توقيته وسياقه ومستمعيه في الحساب.

أما باسيل، الذي تعلّم من «عمه» فن إلغاء الحلفاء والخصوم على السواء، فانتهز لقاءً في وزارة الاتصالات التي يشغلها، لا صلة له أصلا بالمناكفات الانتخابية، ليغمز من قناة تأييد قوى «14 آذار» ـ وبالأخص المسيحيون منهم ـ لرئيس الجمهورية في وجه حملة عون عليه. فقال ما معناه إنه إذا كان هؤلاء حقاً مع الرئيس فليبدأوا منذ الآن العمل على «استعادة صلاحيات رئاسة الجمهورية» (!). وقصد باسيل المكشوف هو دعوتهم للانضمام إلى العونيين في الانقلاب على «اتفاق الطائف» أي على الدستور اللبناني.

المضحك المبكي هنا أن «العم» و«الصهر» يوهمان جمهورهما المسيحي أن الحليف الشيعي يؤيد إعادة صلاحيات الرئيس إلى ما كانت عليه قبل الطائف. وما هو أسوأ، أنهما يعرفان جيدا أن الوضع ليس كذلك.

فالقوى الشيعية الأساسية قد تكون مع تحجيم صلاحيات المسلمين السنّة، ولكن ليس من أجل خاطر المسيحيين... بل توصّلا إلى محاصصة تكون، في أفضل الأحوال بالنسبة للمسيحيين، «ثلاثية» شيعية ـ سنية ـ مسيحية. أي ستتراجع فيها حصة المسيحيين من النصف، كما ينص الطائف، إلى الثلث كما ستفرض المعادلات الديموغرافية والحسابات الإقليمية. ولقد كشف الخلاف «الظاهر» بين برّي مع عون في تشكيل لائحتي المعارضة في دائرتي جزّين بعبدا بعض الحقائق التي تستحقّ التوقف عندها، منها:

في وجه ادعاء برّي أن جزين «منطقة لبنانية»... يريدها عون جزءاً من «إقطاعه المسيحي»، برغم زعمه الدائم أنه غير طائفي، وجاء «الإخراج» المسرحي للخلاف عبر «حزب الله» لدعم عون أكثر في شارعه المسيحي.

ما يفضح حقيقة حسابات عون الطائفية القصيرة الأمد ـ طبعاً ـ تخلّيه بسهولة عن المرشحَين الشيعي والدرزي اللذين ينتميان إلى «تياره» في دائرة بعبدا. فهو لا يملك مشروعاً وطنياً ولا إصلاحياً ولا تغييرياً عنده... بل مشروعه الفعلي ـ كما عبّر الوزير باسيل بصراحة خلال الأسبوع الماضي ـ بناء كتلة مسيحية تضم 30 إلى 40 نائباً تابعاً يدخل بها عملياً «بازار» صفقة المثالثة مع الشيعة والسنّة.

وجود توجّه في الطائفة الشيعية، حتى ضمن معسكر المعارضة ـ يمثله برّي ـ، ما زال يعمل على الإبقاء على الجسور ممدودةً إلى الشريك السنّي والشريك الدرزي في المعادلة اللبنانية، وهو يدرك أن الاستخدام التكتيكي لـ«ظاهرة ميشال عون» لا يصلح كاستراتيجية ثابتة عند الشيعة.

الوضع الإقليمي المرتبك أسهم إسهاماً مباشراً خلال السنوات القليلة الماضية في فرز تكتلين كبيرين في لبنان يتّسمان بالهشاشة التركيبية والتنظيمية. وإذا ما طالت فترة اختبار النيّات التي تعتمدها الإدارة الأميركية الجديدة في المنطقة، وكان آخر تحرّكاتها زيارة نائب الرئيس جوزيف بايدن إلى لبنان، فإن الارتباك الإقليمي سيدفع إلى مزيد من التأزم وربما الانفجارات داخل الحلقات الأضعف في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً، الأراضي الفلسطينية ولبنان والعراق.

اليوم، منطلق أي حلحلة لأزمات المنطقة يجب أن يبدأ مع إسرائيل.

فلا صدقية لأي ضغط على طهران بشأن ملفها النووي قبل سحب حجة السلاح النووي الإسرائيلي. وإذا ما ضمنت واشنطن مسألة «أمن إسرائيل»، شريطة إذعان تل أبيب لحل الدولتين ومسائل القدس والمستوطنات وحق العودة، لن يعود بمقدور طهران المزايدة على كل العرب وكل المسلمين، وتحويل كياناتهم الضعيفة إلى معسكرات تدريب وساحات صراع ديني ومذهبي.

فقط... ببداية حقيقية ومعالجة راديكالية للب الصراع، في قلب فلسطين، توفّر واشنطن على المنطقة مزيداً من مغامرات رؤوس التطرف والديماغوجية من كل الملل والنحل. وتتيح الفرصة لشعوب الشرق الأوسط لكي تعيش بكرامة وتستعيد الثقة المفقودة بما يمثله ذلك التمثال المنتصب على مدخل ميناء نيويورك.