صفحة زمن

TT

لكل أسرة فولكلور خاص تتوارثه الأجيال: طرائف ومواقف وسلوكيات يتذكرها الأبناء والبنات عن الوالدين ويتبادلونها في المناسبات، فيبقى الإحساس بوجود الوالد متصلا ويتجدد أثره في النفوس والعقول. وإن نسيت لا أنسى أقصوصة عن أبي وأمي لا تنفك تذكرني بأن الدنيا تتغير من دون أن نشعر. تقول الأقصوصة إنه في زمن لم يزد فيه راتب الموظف عن 12 جنيها نفح أبي أم أولاده ثلاثة جنيهات كاملة، وقال لها اخرجي إلى السوق واشتري لنفسك ثوبا وحذاء وحقيبة يد. ثم صمت قليلا وقال: وإذا تبقى من الجنيهات الثلاثة شيء أرجو أن تعيديه إلي.

نتبادل هذه الأقصوصة، إخوتي وأنا، ويحملنا الشوق إلى الوالد الراحل فوق أجنحة الحب فنطلب له الرحمة وجنة الخلد. فالأقصوصة حتما تعبر عن كرم شديد ومودة، وتحمل معاني الثقة بين الزوجين. وربما تحمل الأقصوصة في طياتها أيضا رثاء لحال الجنيه المصري. فلو تكرر الموقف اليوم لا بد أن يقدم الزوج لزوجته، بدل الجنيهات الثلاثة، ثلاثة آلاف جنيه.

بالأمس تذكرت كرم أبي وأدركت أن العالم الذي نشأت فيه تغير كثيرا لا دفعة واحدة بل على دفعات. كنت أودع زميلا كريما فرقت بيني وبينه ظروف العمل منذ سنوات طوال. فقد كان سيد متولي فنانا جار زمن التكنولوجيا الحديثة على فنه، فتراجع كثيرا إلى أن أصبح نسيا منسيا أو كاد. كان سيد متولي واحدا من أكثر الخطاطين موهبة. جاء إلى لندن في منتصف سبعينات القرن الماضي في بدايات هجرة المطبوعات العربية إلى أوروبا. أتذكره جالسا على مقعد عال في خلفية صالة التحرير، يعمل بخفة، والابتسامة لا تفارق وجهه. وحين يقترب يوم العمل من نهايته يرفع صوته بالنداء: يللا يا اخواننا.. العناوين.. عايزين نروح.

كانت الحروف والكلمات تنساب من قلمه انسيابا فيه الكثير من الزخرف. وكثيرا ما أضاف لمسة خاصة في نهاية حرف مفتوح، وكأنه أبى ألا يضع إمضاء على الحرف. كان الخط في ذلك الوقت جزءا هاما من جماليات تصميم الصفحات وتقديم المادة للقارئ. ثم جاء زمن الكمبيوتر وبرامج الخط الآلي الذي يفرزه الجهاز بضغطة زر بالبنط المطلوب. وأخذتنا الدنيا والطموح، كل في طريق، بحيث لم نتذكر الخطاط إلا قليلا. ولولا احتفاظي بأعداد كثيرة من الصحف والمجلات التي عملنا فيها جنبا إلى جنب لاختفت ابتسامته من ذاكرتي أيضا، ولما تذكرت أصابعه السمراء الطويلة تمسك بقلم له طرف مدبب مسنون يخرج حرفا يتأود حبا ودلالا فيمتع ويثري.

منذ أيام فارق الفنان الحياة فذهبت لأودعه. قرأت الفاتحة وفتشت في وجوه الحاضرين فلمحت صبية شقراء تذرف دمعا غزيرا وقد ارتدت حجاب المرأة المسلمة. فاقتربت منها وربتّ على كتفها وقلت لها: لا تبكي. فقد رحل إلى حياة أفضل. فقالت: لقد كان أفضل جد في العالم. وفهمت أنها حفيدته. لم يكن عسيرا أن أدرك أن الوالد هو ابن الفنان الراحل لكثرة الشبه بينهما، ولا أن زوجته أوروبية الملامح. فملت على الصبية بجواري وسألتها: ما اسمك؟ فقالت: بيج، وهي مفردة إنجليزية معناها «صفحة».

فهل تبقى تلك الصفحة من تاريخ الفنان الراحل بيضاء أم تسطر عليها صاحبتها حروفا وجملا من كتاب الفولكلور العائلي الذي خلفته ذكرى الجد الغائب فتظل ذكراه حية رغم تغير الزمن؟