يحيا الاستعمار

TT

حقا إنني إنسان متقلب. أنا أومن بالقول الإنجليزي «أسبوع واحد في دنيا السياسة مدة طويلة جدا». غيرت مواقفي باستمرار، ولكن شيئا واحدا بقي معي طيلة حياتي الفكرية، وهو اجتثاث الفقر وإنقاذ الفقير. الشعار الوحيد الذي لم أحد عنه لم أتلقاه من كارل ماركس أو آدم سميث أو توماس بين أو المهاتما غاندي، وإنما من الإمام علي: «لو كان الفقر رجلا لقتلته». وطبعا سيكون القتل الوحيد الذي سيطيب لي اقترافه.

تحدثت في هذا الموضوع قبل بضعة أسابيع في لندن، فقلت إن هوسي بمحاربة الفقر كأساس لكل أفكاري السياسية جرني إلى شتى المواقف الشاذة والمرفوضة. من ذلك دعوتي لعودة الاستعمار. لماذا؟ لأنني وجدت أن الإنجليز كانوا أكثر رأفة بالفقير من حكامنا الوطنيين. سميت أيضا حركة التحرر الوطني بحركة الحرامية. لماذا؟ لأن الأفندية اعتادوا في العهد العثماني على السرقة والرشوة والفساد. جاء الإنجليز فمنعوهم من ذلك، فثاروا عليهم. حصلوا على الاستقلال. ومن اليوم الأول من الاستقلال عادوا إلى سابق شأنهم، السرقات والرشوات والفساد مما نراه اليوم بأم أعيننا في العراق. فضلا عن ذلك، الإنجليز لم يتسببوا بمقتل مليون مواطن باسم الوطنية في حروب رعناء مع دول الجوار.

كنت أتصور نفسي الوطني الوحيد الذي يؤمن بعودة الاستعمار رأفة بالوطن والشعب. بيد أن أستاذة من السودان، الدكتورة أحلام حسب الرسول، انضمت لهذه المدرسة قبل أيام قليلة رأفة بالسودان. وأنا واثق أننا سنسمع مثل ذلك قريبا من مفكرين آخرين في الجزائر. أقول ذلك من وحي ما سمعته في الجزائر بعد سنتين من حصولها على الاستقلال من عمال جزائريين في طريقهم للهجرة لفرنسا. تحسروا على حكم الفرنسيين.

صدم دبلوماسي سوداني كان متحمسا للثورة الجزائرية (مثلنا جميعا) مما رآه في الجزائر فقال لصديقه الجزائري: «يا أخي أهذا حقا بلد المليون شهيد؟!»، أجابه صاحبه: «تقول بلد المليون شهيد؟ يا أخي هذا بلد الثلاثين مليون شهيد!»

وهذا رأي مرفوض آخر من القشطيني. الثورة الجزائرية كانت أكبر غلطة ارتكبوها. لقد أعلنت فرنسا ضم الجزائر إليها. كان على الجزائريين أن يناضلوا ويقدموا ما قدموا من تضحيات من أجل معاملتهم على قدم المساواة مع بقية الفرنسيين. وهذا شيء كان بالإمكان تحقيقه بدون إراقة قطرة دم واحدة، ولا سيما في جو المساواة الذي يسود الآن. بتحول 35 مليون مسلم في الجزائر زائد نحو خمسة ملايين مسلم في فرنسا، وزيادة الهجرة والولادة بين المسلمين، تصبح فرنسا أول دولة أوروبية كبرى تقطنها وتحكمها أكثرية مسلمة. وبتحول فرنسا إلى دين محمد تستطيع لعب دور حاسم في ضم تركيا أيضا للاتحاد الأوروبي وفي توجهاته نحو فلسطين وسائر مشاكل العالم العربي والإسلامي.

وفضلا عن كل ذلك، تفادي كل ذلك الموت والدمار والفقر والجهل والتخلف الذي كتب على المواطن الجزائري منذ نيل الاستقلال لبلاده. من جره لكل ذلك؟ من عرقل هذه المسيرة الاستراتيجية التاريخية؟ طبعا، هم أنفسهم: الأفندية. المثقفون الذين لا يستطيعون أن يروا ما هو أبعد من ذؤابة أنفهم الذي لا يشم غير مصالحهم الذاتية الآنية.

www.kishtainiat.blogspot.com