السياسي بين مثالية الثقافة وواقعية السياسة

TT

بكى الدكتور سامي الدروبي، وهو يقدم أوراق اعتماده سفيرا لنظام صلاح جديد، لدى بلاط جمال عبد الناصر. لم يكن يتوقع أن يكون سفيرا بين دولتين، كانتا قبل سنين قليلة دولة وحدة قومية. كان بكاء المثقف تعبيرا عن الرثاء لمثاليته، التي اضطرتها واقعية السياسة ومكرها إلى القبول بالمنصب الدقيق.

شخصية طيبة وسيمة. غاية في الرقة والأدب والتواضع. قمة في الثقافة والسياسة. إيمان عميق بوحدة العرب لا يخالجه شك. قبول الدروبي السفارة أدهش الذين يعرفونه معرفة وثيقة. فلم يكن المنصب الدبلوماسي ليجتذب الرجل قط، وهو الذي كان وزيرا.

بعد مرور السنين، ازددت اقتناعا بأن سامي الدروبي، كان مخطئا في قبول المهمة السياسية! كان يظن واهما أن بالإمكان عودة الوحدة، يوما ما، بين مصر وسورية. لعله بنى هذا الوهم على تقديم البعثيين والناصريين الاشتراكية كطريق إلى الوحدة في الستينات أو السبعينات. كانت حرفة السياسي لدى العسكري صلاح جديد في غاية الذكاء، عندما تمكن من إقناع الدروبي المثقف القومي الوحدوي بأن يكون سفيره لدى عبد الناصر.

كانت الخديعة كبيرة. حتى عبد الناصر الضابط السياسي المثقف لم يكن في حرفة عسكر السياسة السوريين. سلم ناصر الجيش السوري إلى ضباط البورجوازية الدمشقية الصغيرة. فقاموا بانقلاب على شريكه عبد الحكيم عامر. عندما أدركوا خطأهم، ذهبوا إلى عبد الناصر باكين نادمين. في غباء منقطع النظير ـ آسف لاستخدام هذا التوصيف ـ رفض عبد الناصر استعادة الوحدة. ثم ما لبث أن دخل في حلف سياسي مع نظام عدو آخر له. عرف صلاح جديد كيف يصل. كيف يحطم القوميين البعثيين والناصريين. لكن لم يعرف كيف يحكم. بل ما لبث أن جر حليفه المصري اللدود إلى حرب، لم يكن الرجلان والنظامان على استعداد لخوضها.

حرب تمر ذكراها الأليمة بعد أيام قليلة. ما زال العرب يدفعون ثمنا غاليا لهزيمتهم فيها، من أرضهم وكرامتهم وعروبتهم. كان عبد الناصر أول من دفع الثمن. ثم صلاح جديد، لكن بعدما ورط الأخير سورية في حرب دموية مع شقيقتها الأصغر الأردن، على مشهد من عدو جاثم على الأبواب.

دفع الثمن أيضا السفير المثقف، الذي تعلق بعبد الناصر، فغادر «البعث» مع النخبة المثقفة، التي أسست الحزب في الأربعينات. لم تكن الرومانسية الثقافية الحالمة بالوحدة القومية تدرك، بَعْدُ، أن الوحدات السياسية تبني بالمؤسسات الديمقراطية، وليس على عاطفية التعلق بأشخاص زائلين.

أحسب أن الدروبي كان أكثر هذه النخبة الحزبية المغادرة إحساسا بالندم والفجيعة. ربما كان هذا هو السبب في ترجمته الرائعة لديستويفسكي. كان «هاملت» الروسي شبيه الدروبي في حسه الثقافي المرهف، غير المتكيف مع الواقعية الحياتية والسياسية.

لا أكتب هذا الحديث بمناسبة ذكرى النكسة. لم يعد يهمني إنعاش الذاكرة. بإحياء تقليدي لذكرى الهزيمة، من دون سماح النظام المهزوم هنا أو هناك، بنقد التجربة. إنما عرضت تجربة الدروبي، لأعالج قضية ما زالت تشغلني منذ احترافي المبكر للصحافة: هل الثقافة ضرورة للسياسي؟

أعتقد من خلال المتابعة والمراقبة لمسيرة مئات السياسيين، أن الثقافة ليست حاجة ملحة مطلوبة في السياسي، لكون السياسة قيمة زئبقية تخضع لظروف متقلبة. هذه الظروف تفرض على السياسي المحترف التكيف مع الواقع، أو تمده بالإرادة الصلبة للمعارضة والمقاومة.

ماذا أعني بالثقافة السياسية والاجتماعية، التي أفضل أن يلم بها كل سياسي أو صحافي من دون إلزام؟ أعني بها المعرفة بالقضايا الاجتماعية الجاثمة تحت السطح الفولاذي للنظام، أو الكامنة تحت وطأة الحدث السياسي الطارئ، وذلك في كل بيئة محلية عربية: التزايد السكاني الهائل (مصر). أزمة الإسكان (الجزائر). تسييس الدين مع دروشة المجتمع. التنمية وعلاقتها بالنفط والبطالة والإنتاجية والعمالة الأجنبية (الخليج). الهجرة. البيئة. المياه. الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية.الرأسمالية العشوائية...

ما زال الصحافي والسياسي على غير تماس بعلماء الاجتماع والاقتصاد والتكنوقراط العرب. هؤلاء يحكمهم خوف مروع من النظام أو المرجعيات الدينية، إذا عالجوا بأمانة بحثية وعلمية قضية اجتماعية لها علاقة بالسياسة أو الدين، وحاولوا تقديمها إلى إعلام مأزوم في حريته.

الحافز الآخر في تغييبي الحدث السياسي في هذا الأسبوع، هو الرغبة الملحة في متابعة محاولة الرئيس المثقف باراك أوباما، الجمع بين مثالية الثقافة وواقعية السياسة. رجل يملك الثقافة والمعرفة. يتقن بلاغة الكلمة المكتوبة، وفصاحة اللغة، وبراعة الخطابة القادرة على مس الضمائر والعواطف. يقنع، يلهم. يضحك. يبكي الناس، من دون أن يتغير، أو يفقد توازنه. يدعوهم إلى الإيمان بأميركا قوية، أميركا التي كانت بوتقة الصهر للغات والأعراق والأديان في بوتقة حرة وديمقراطية.

أمية الثقافة السياسية ميزت معظم رؤساء أميركا. آخرهم الأمي السياسي جورج بوش. هل يستطيع مثقف سياسي نادر، كأوباما، أن يُرْفِقَ مشروعه الاجتماعي والسياسي للتغيير الداخلي والخارجي، بأكثر من ثقافته المثالية وبلاغته الخطابية؟، هذا هو صميم التحدي لأوباما المثقف، كي تكون أميركا أكثر عدلا في العالم، وأكثر قربا من أعدائها وأصدقائها وحلفائها.

قلة من الساسة والمسؤولين المثقفين حققت نجاحا. سخّر ميتران ثقافته في خدمة دهاء وغموض ميكيافيليته السياسية. كان غورباتشيف ضحية ثقافته الليبرالية أمام براغماتية القوميسار السابق الأمي يلتسين. محمد مزالي عنوان آخر لفشل المثقف أيام براغماتية بورقيبة. مزالي لم يستطع تدبير فرص النجاح، حتى عندما وَهَنَتْ مَلَكَاتُ زعيمه الذهنية والعقلية.

لعل في العمر بقية تمنحني الفرصة لمتابعة تجربة أوباما المثيرة. أتمنى أن يكون أوباما محظوظا. الحظ يلعب دورا في حياة السياسي، تماما كما تلعب شعوذة السحر والكهانة دورا في حياة المرأة الجاهلة. أتمني ذلك لكي لا يكون مصيره كمصير مثقف عربي آخر غير محظوظ. يعذبني مصير الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، في حياته ومماته، كلما استشهدت به كمثال على فشل الأخلاقية الثقافية النزيهة أمام جَهامَة الواقعية السياسية.

قاد الطبيب عبد الرحمن الشهبندر، أكبر ثورات سورية ضد فرنسا. صالح ثوار الطوائف مع الوطنية والعروبة. عندما لاحقه حكم بالإعدام، اختار مصر. حاضر طلبتها وشبابها ومثقفيها عن العروبة والديمقراطية. عرّفهم بالمذاهب السياسية الحديثة، عندما كان حاخام اليهود ناحوم يحاضرهم في أنديتهم الثقافية عن «حق» الصهيونية في فلسطين. كان الشهبندر الخطيب أخطب من خطيب مصر سعد زغلول. كان أكثر عمقا في الثقافة والسيطرة الجماهيرية، في عصر لم يكن مكبر الصوت (المايكروفون) شائعا.

عاد الشهبندر إلى سورية، ليعترض بجماهيريته الخطابية، وثقافته السياسية، على معاهدة الاستقلال الناقص التي وقعها قادة «الكتلة الوطنية» مع فرنسا 1936. عندما أحرج الشهبندر فرنسا فيشي، جندت مرشد جماعة تكفيرية ضده. كان اغتيال الشهبندر (1940) أول جريمة ترتكبها الجهادية السياسية في العالم العربي. قتل الشهبندر (الكافر) في عيادته الطبية التي يعالج بها الفقراء مجانا.

اخفق الشهبندر في التوفيق بين مثالية الثقافة وشعبية الجماهيرية السياسية. بلغ من تقدير السوريين ووفائهم لزعيمهم أن دفنوه على عتبة ضريح صلاح الدين الأيوبي، بجوار مسجد أمية في دمشق. ربما لو امتد العمر بحياة السياسي المثقف، لجنب سورية إرهاق انقلابات عسكر السياسة عديمي الثقافة والمعرفة، ضد قادة النضال الوطني. كان القوتلي وجميل مردم مخلصين في نضالهما، لكن لم يتمتعا في زمن الاستقلال بوعي ثقافي، يمكنهم من إدراك واستيعاب جيل جديد مسيّس كثير الآمال والطموحات.