افعل ما شئت يا حزب الله فهو مغفور لك !

TT

في رد حزب الله على تحقيق مجلة «دير شبيغل» الألمانية الذي سدد الاتهام لحزب الله باغتيال رفيق الحريري، وذكر تقرير المجلة الشهيرة العديد من الأسماء والتفاصيل حول جريمة القرن في لبنان، في رد الحزب الإلهي كان ما لفتني، ليس دفوعات الحزب، ولا تكذيباته، ولا صكوك التخوين لوسائل الإعلام العربية التي نقلت ـ فقط نقلت ـ خبر الـ«دير شبيغل»، ما لفتني في نص بيانه هو المضمر العقائدي والنفسي فيه.

ففي خاتمة الرد، وقد أخذته من موقع مجموعة «المنار» الإعلامية التابعة للحزب، جاءت الفقرة التالية: «إن هذه الجهات ستفشل في تحقيق أغراضها المشؤومة كما فشلت سابقا». وهذه الأغراض المشؤومة التي يتحدث عنها بيان الحزب الأصفر هي النيل من «مكانة ودور حزب الله». ليشمل رد الإلهيين الصفر هنا كل من نقل تقرير المجلة الألمانية دون أن يبدي حماسة في رد المعلومات، لأن هذه الحماسة تعني نظافة الانتماء وإبعاد تهمة الخيانة للشرف والحق الممثل بالحزب الإلهي.

في الأثناء كنت أشاهد حلقة حوارية في فضائية عربية حول أزمة الـ«دير شبيغل»، وإذ بأحد أنصار الحزب يقول: «لا يكفي أن يرفض السنيورة والحريري عدم التعليق وأنهم لا يعترفون إلا بالنتائج الرسمية والأقوال الممهورة من قبل المحكمة الدولية»، وحسب أخينا الإلهي هذا، فإنه كان من الواجب على الحريري والسنيورة المبادرة إلى تبرئة الحزب وتكذيب كل شيء ورد في تقرير المجلة الألمانية، بشكل فوري وحاسم، الأمر الذي يعني الخروج من عالم القانون إلى مقتضيات السياسة، وإلا فإن سيف التخوين الإلهي مسلط على الرقاب.

ليس من المهم إبداء الرأي هنا في معلومات المجلة، ولا في مصادرها، ولا في تفسير الهدف السياسي، إن كان موجودا، من وراء نشر التحقيق الصحافي هذا، وليس من المهم في سياق هذا المقال تفسير التوقيت. كل هذا ليس من غرض الكلام هنا، رغم أهميته، ولكن الغرض هو تأمل ردة فعل الحزب وكلماته التي تتجاوز قصة الـ«دير شبيغل» الراهنة لتصل إلى مشاهدة كيفية رؤية الحزب لنفسه ومهمته وكيف يحدد موقعه في عالم السياسة بوصفه متعاليا على الجميع بالنقاء الإلهي وبالشرف الاستثنائي، متكئا بطبيعة الحال، في إدامة هذا الاستثناء له على سلاحه وجنوده العقائديين، ووقوف إيران ممثلة بحرسها الثوري خلف حزبها التابع لوليها المرشد في طهران.

الحزب يرى نفسه فوق الجميع، ولذلك يحق له ما لا يحق لغيره، أليس هو مفوض النصر الإلهي؟ وعليه، فلا يجوز تطبيق المعايير الأرضية العادية عليه، لأنه قدم سابقة في التاريخ تشفع له كل شيء يعمله بعد ذلك، على طريقة النص الشهير في السيرة النبوية حين ارتكب أحد الصحابة في معركة بدر، لاحقا، خطيئة سياسية، فعفي عنه لأنه من أهل «بدر» وكان التعليق المأثور: «وما يدريك، لعل الله اطلع على أهل بدر فقال افعلوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم».! ويبدو أن حزبنا الإلهي هذا يريد من الجميع أن يتعامل معه بهذه الطريقة: «افعلوا ما شئتم فإنا كلنا قد غفرنا لكم مقدما».

مع أن «بدر» الحزب الإلهي ليست كـ«بدر» السيرة النبوية، فـ«بدر» الحزب طائفية، ثمارها مسخرة لجنود الحزب وأنصاره، محليا، وأولياء أمر الحزب، خارجيا، هذه واحدة، والثانية أن «بدر» الحزب لم تكن للجميع من الطائفة، بل لفئة دون فئة، وثالثا، وهذا هو الأهم، أن «بدر» السيرة النبوية لم يخالف أحد في روايتها ونتائجها وفضائلها التي نتجت منها وتمتع بسببها من شارك فيها بتقدير كل الأمة، بينما «بدر» الحزب الإلهي، أو «بدوره» بالأصح، عكس ذلك، من بداية عملياته داخل لبنان في الثمانينات بعدما انشق عن «أمل» وكون نفسه فصيلا خالصا مخلصا لإيران الخميني، ثم بعد عملياته في الجنوب ضد إسرائيل، ثم بعد انسحاب إسرائيل من الجنوب 2000، ثم حرب الصيف في 2006 التي أعطى الحزب فيها مبرر الهجوم لإسرائيل التي لم توفر الفرصة، ثم مع «بدر» الحزب المجيدة في اجتياح بيروت وإرعاب أهلها وقتل العشرات من أهل لبنان.

في كل هذه البدور الخمينية الحزبية، لم نكن أمام موضع إجماع من الأمة ، كل الأمة التي يخاطبها حسن نصر الله على كامل الكرة الأرضية، إلا أمة الحزب الصغيرة، ولا أقول، حتى، أمة الطائفة الشيعية التي نعرف تماما كيف أن الحزب يريد احتكارها في اللون الأصفر. وفي بعض المحطات القليلة، أمة الحزب السياسية من قوميين ويسار وإخوان.

طبيعة الأحزاب والجماعات العقائدية، والتي تحقق ذاتها من خلال شعارات طهرانية ودعاوى تخليصية كبرى، هي أنها تعتقد في نفسها الديمومة والبقاء الخالد، لأنها هي خشبة الخلاص الأخيرة التي تملك الحلول الكبرى للجميع، إنها ليست أحزاب مرحبة بسعة الهوامش الخلافية على مستوى الأفكار والرؤى، قد يتسع صدرها، خصوصا في لحظات اطمئنانها لهيمنتها، لسماع بعض الآراء ووجهات النظر التي تتعلق بفرعيات الأمور وتكتيكات اليوم والراهن، لكنها أبدا لا يساورها الشك في امتلاكها كامل الحقيقة، ثم في شعورها بالواجب الجمعي في هداية الخراف الضالة.

من هنا قد يفهم البعض، ممن صدموا، تصريحات زعيم حزب الله، حسن نصر الله، التي مجد فيها غزوة بيروت، كما مجد أسامة بن لادن كل غزواته وتفجيراته في العالم الإسلامي، فهو، أي الزعيم الإلهي، في لحظة السكرة السماوية، وبين ضجيج سلاحه وصراخ أنصاره، افتقد للحد الأدنى من الحساسية السياسية والمراعاة اللفظية حتى، وليس من حرج عليه، فليفعل ما يشاء، فقد غُفر له!

هذه الشيمة النفسية ليست قصرا على الجماعات الدينية السياسية، فهي شيمة لكل الخلاصيين وأصحاب الحلول الكبرى، من صدام حسين إلى هتلر وموسوليني، وفي تاريخنا حادثة قد يصلح تذكير جماعة الحزب الإلهي بها، حينما وقف أبو العباس السفاح، أول خليفة عباسي يخطب في الناس بعد نجاح حركتهم ضد الأمويين، مظفرة بأحلام دينية خلاصية وشعارات عن «الرضا من آل محمد» وتحقيق العدل الإلهي المفقود على الأرض واستعادة حقوق المستضعفين؛ وقف السفاح في أول خطبة له للناس سنة132هـ وتحدث عن أن الله اختار العباسيين تحديدا لتحقيق العدل، وأن هذا الأمر، أي الحكم، سيبقى معهم إلى نهاية الزمان، فهم أسبق من فوكو ياما في نظرية نهاية التاريخ! وكان مما جاء في خطبة السفاح للجموع الهاتفة: «أنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا».

مثلما يقول زعيم الضاحية دوما لجموعه الهاتفة: أكرم الناس وأنبل الناس.. وهو محق في ذلك وفق رؤيته للنبل والكرامة، التي لا بد أن تمر بمعيار الحزب الإلهي.

بكل حال، إن جموح حزب الله، ليس إلا سطرا صغيرا في صفحة عابرة من كتاب ضخم اسمه: «التاريخ الإسلامي»، سيفني سحر الحزب مثلما فنيت من قبله هتافات وأحلام عظمى بتمثيل الحق الصافي وقيادة الخراف الضالة، لكن الحزب وأنصاره لا يرون، ولن يروا، في غمرة الغبار المقدس، وسنظل إلى أجل معدود ومحدود، نرى الحزب وأنصاره يتصرفون على طريقة: افعلوا ما شئتم أهل بدر، فإنه مغفور لكم.

بقي القول مجددا، إنه لا علاقة لهذا المقال أبدا بتبني رواية مجلة «دير شبيغل» حول تورط الحزب بقتل الحريري، ولكنه تأمل محض في الطبيعة النفسية التي تحكم خطاب الحزب الإلهي ورؤيته لنفسه السماوية وغيره من الأرضيين.

[email protected]