المصالحة في العراق: حقيقة أم وهم؟

TT

لا يمكن بحث موضوع المصالحة الوطنية في العراق دون التعرف على الطبيعة البنيوية لإشكالياتها. الجميع يتحدث عن المصالحة كطريق للإنقاذ الوطني، بدءا بالحكومة الحالية ومرورا بمعارضيها، وانتهاء بالمحتل وبقية الأطراف الدولية والإقليمية الأخرى المتصارعة على الساحة العراقية، لكن الشعارات وحدها لا تعني شيئا.

لقد أصبحت قضية المصالحة هَمّا آخر يضاف إلى المشكلات التي ما فتئت تعمّق الخلاف بين العراقيين المنخرطين في العملية السياسية منذ عام 2003 المنشأة تحت الاحتلال وأولئك المعارضين لها، وتزيد بالتالي من تشظّي كل الأطراف وتفرّق المجتمع العراقي بشكل لم يسبق له مثيل، حتى أصبح علينا الآن أن نتحدث عن عدد من المصالحات قاسمها المشترك هو الإقرار بالحاجة لبرنامج سياسي شامل يضمن مشاركة كل العراقيين ويوحدهم على مبدأ المواطنة، ويوفر العدالة للجميع ويحترم التعددية.

التشظّي السياسي العراقي الحالي نما في جو من انعدام الثقة التام وغياب شبه كلي لأي حوار جدّي بين الأطراف المختلفة، كما أن الأجواء الإقليمية والدولية لم تساعد على إنجاح مثل هذا الحوار.

فالإدارة الأمريكية الجديدة تجنبت الإقرار بفشل الإدارة السابقة المطلق في العراق، واكتفت بمقاربة خجولة جديدة ولم تكُن لديها الجرأة أن تطرح استراتيجية بديلة شاملة. أما إيران التي ضمنت، بشكل لا لبس فيه، الهيمنة النسبية على رقعة الشطرنج العراقية، فإنها لم تستطع أن تستمتع بما حققته، وهي مشغولة بوضعها الإقليمي القلق. وجاءت نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة بنذر مخاطر جديدة، كما أن المشكلات بين الفلسطينيين أنفسهم زادت التوتر في المنطقة وأبعدت آفاق حل الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني إلى أجل غير مسمّى.

المصالحة الوطنية في العراق يجب أن تكون عملا طوعيا وليس إسقاط فرض، وهي لن تتحقق إذا لم تعترف جميع الأطراف بعضها ببعض، وتقرر، وبشكل حاسم وشجاع، أن تحرر نفسها من مخالب الحقد ونزعة الانتقام وشهوة التسلط.

جميع مؤتمرات المصالحة التي عُقدت لحد الآن لم تكن أكثر من حملات علاقات عامة ومناسبات للسفر. بعض هذه المؤتمرات، مثل الذي عُقد في هلسنكي، كان كل الموقّعين على وثيقته النهائية أعضاء في البرلمان العراقي، فهل كان الأمر يستوجب السفر إلى هلسنكي لتوقيع هذه الوثيقة بينما هم يلتقون كل يوم في قصر المؤتمرات في بغداد!

لقد درجت أغلب وثائق مؤتمرات المصالحة على إعادة تأكيد «استحالة المصالحة مع أولئك الذين تلطخت أياديهم بدماء الأبرياء». والسؤال الذي يُثار هنا: وهل في العراق من لم تتلطخ أياديه بالدماء خلال الخمسين سنة الأخيرة؟

إن الإصلاح السياسي والدستوري، كأولوية، يجب أن يبدأ بإصلاح القلوب وتطهيرها من نزعة الانتقام وتعميرها بثقافة التسامح، وهذا سيساعد العراقيين، جميع العراقيين، في الوصول إلى القناعة بأن استقرار ورفاه وطنهم يمر من خلال وحدتهم وتحابّهم. إن وحدة العراقيين هي الضمان الوحيد لتحصين بلدهم من الداخل في مواجهة بيئة إقليمية معقدة.

لا يمكن إعادة إعمار العراق من خلال «عدالة المنتصرين» ولا من خلال نظام سياسي ينشأ على أساس الإقصاء العرقي أو الطائفي. إن نجاح إعادة الإعمار مرهون بنجاح برنامج سياسي يقوم على الأسس الآتية:

أولا: التركيز على بناء المستقبل وضمان الحماية الناجحة للحقوق المدنية والسياسية لجميع العراقيين، وكذلك حماية النسيج الاجتماعي العراقي وحماية حقوق العراقيين كافة وحرياتهم الأساسية.

ثانيا: كل مكونات الشعب العراقي عانت قبل وبعد 2003، ومن هنا تنبع الضرورة القصوى لعملية ديمقراطية تساوي بين الجميع، وتجعل الشعب يشارك في اتخاذ القرار ويحترم التعددية وآلياتها.

ثالثا: ويجب في النهاية ضمان أن لا يُساء استخدام السلطة، ولا يحصل تمييز في توزيع الثروة ولا جرائم إبادة أو مجازر مطلقا.

وأخيرا يجب على السياسيين أن يؤكدوا لشعب العراق وفسيفسائه الرائعة أن هدف المصالحة ليس اتخاذ موقف، سلبي أو إيجابي، من الماضي ومن الحاضر، بل إن هدفها هو تجنب أن تبقى الجروح مفتوحة كي لا تتحول بدورها إلى مصدر للضغينة والبغضاء وتحوّل طريق المستقبل إلى طريق للآلام.

*باحث أساسي في مركز

«سيجي» بكندا

المبعوث السابق لجامعة

الدول العربية في العراق

[email protected]