هل التعذيب أمر مشروع؟

TT

يعد التعذيب واحدا من الشرور التي لا يمكن السماح بممارستها، فيما عدا حالتين: أولاهما: وجود قنبلة موقوتة على وشك الانفجار بما يهدد حياة أحد الأبرياء، في الوقت الذي يملك فيه الشخص الشرير الذي ألقي القبض عليه معلومات يمكنها إنقاذ حياة هذا البريء. لكن هذا الشرير يأبى الإفصاح عما بحوزته من معلومات. في مثل هذه الحالة، يكون من السهل الاختيار، فحتى جون ماكين، أحد أبرز مناهضي التعذيب، صرح علانية أنه في مثل هذه الظروف: «تفعل ما يتعين عليك القيام به»، ثم تتحمل المسؤولية عن ذلك.

إلا أن البعض يساورهم الاعتقاد بأنه لا يتعين عليك ممارسة التعذيب قط. ويشبه أعضاء هذا المعسكر مناهضي الحروب لأسباب تتعلق بالضمير والأخلاق والذين يرفضون القتال تحت أي ظرف. ونحن، من جانبنا، نتعامل معهم على النحو الصائب بإبداء احترامنا لموقفهم بإعفائهم من واجب خوض الحرب. لكننا لا نولي أيا منهم مسؤولية ترؤس قيادة مركزية، ذلك أنه لا بأس في التمسك بمبادئ وقيم خاصة، لكن ذلك لا يتوافق قط مع شخص توكل إليه مسؤولية قيادة مركزية، ويصبح أمن أمة بأكملها على عاتقه. وبالمثل، فإنه من غير الحكمة تولية شخص يرفض التعذيب في ظل أية ظروف، مسؤولية اتخاذ القرارات المتعلقة بالأمن القومي التي تعتمد حماية 300 مليون نسمة من أبناء بلاده.

أما الاستثناء الثاني لقاعدة حظر التعذيب فتكون متعلقة باستخلاص معلومات قيمة للغاية من عدو على قدر كبير من الأهمية باستطاعتها إنقاذ الأرواح. بيد أن هذه الحالة تفتقر إلى الوضوح الشديد الذي يتميز به سيناريو القنبلة الموقوتة، ففي هذه الحالة، تتوافر لدينا معلومات أقل حول حجم الخطر القائم أو طبيعة الهجوم القادم. لكننا نعلم أن خطر عظيم قائم. جدير بالذكر أن واحدة من «مذكرات التعذيب» أشارت إلى أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية حذرت من أن مستويات التهديد الإرهابي وصلت إلى ما كانت عليه قبل هجمات 11 سبتمبر (أيلول). في إطار هذا السيناريو، ندرك جيدا أن علينا التحرك، لكن من دون فكرة واضحة عن طبيعة الإجراءات الواجب اتخاذها أو الوجهة التي ينبغي أن نقصدها، ولا يسعنا معرفة ذلك حتى تتوافر لدينا معلومات، وهنا تتجلى المفارقة التي ينطوي عليها الموقف. في ظل هذه الظروف، تفعل ما عليك فعله، ويتضمن ذلك استخدام أسلوب الإيهام بالغرق. (ومن بين الأساليب الأخرى لما يطلق عليه تكتيكات «التحقيق المتطورة» الصفع على الوجه والحرمان من النوم، ولا يرمي استخدام لفظ «تعذيب» سوى لإفراغ الكلمة من أي معنى).

لكن هل نجحت هذه الأساليب؟ في الواقع، فإن الأدلة القائمة قوية، حيث قال جورج تينيت إن برنامج «التحقيق المتطور» تمكن وحده من الوصول إلى قدر من المعلومات يفوق كل ما توصل إليه: «مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية ووكالة الأمن القومي معا».

من جهته، كتب مايكل هايدن، مدير وكالة الاستخبارات المركزية، يقول بعد وقف أساليب الإيهام بالغرق: «إنه في عام 2006.. كان نصف مجمل المعلومات المتوافرة لدى الحكومة عن هيكل وأنشطة «القاعدة»، قد تم الحصول عليه من خلال هذه التحقيقات». بل نجد أنه حتى دينيس بلير، مدير الاستخبارات الوطنية في إدارة أوباما، اعترف بأن هذه التحقيقات أثمرت عن «معلومات عالية القيمة»، الأمر الذي يتناقض مع التأكيدات الجوفاء حول أن التعذيب لا يجدي مطلقا.

والتساؤل الذي يفرض نفسه الآن: ألم يكن باستطاعتنا، مثلما أكد الرئيس مرارا في المؤتمر الصحافي الذي عقده أخيرا، الحصول على المعلومات عبر سبل أقل تنافيا مع الأخلاق؟ ربما إذا كنا تحدثنا بهدوء وإخلاص مع خالد شيخ محمد، كنا سنحصل على ذات «المعلومات بالغة الأهمية».

في الواقع، هناك مشكلتان فيما يخص تكتيك «الشرطي الطيب»، ذلك أنه لم يبد خالد شيخ محمد، العقل المدبر لهجمات 11 سبتمبر (أيلول) والذي كان بحوزته معلومات عن مخططات أخرى أكثر من أي شخص آخر، مستعدا للاستجابة للتساؤلات المهذبة حول خططه المستقبلية. لقد أجاب الرجل الذي تباهى بقيامه شخصيا بجز رقبة دانييل بيرل بسكين عن الأسئلة الموجهة إليه بالقول: «قريبا ستعلمون» ـ بمعنى أنه عندما تحصون الجثث في المشرحة وتعاينون المصابين بحروق بشعة داخل المستشفيات، ستعلمون حينها ما نخطط له الآن.

وتكمن المشكلة الثانية في التوقيت، حيث إن أسلوب العمل الروتيني لتكتيك «الشرطي الطيب» قد يستغرق أسابيع أو شهور أو حتى سنوات. ولم تكن هذه الرفاهية متوافرة لدينا في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول) عندما جرى استخدام الإيهام بالغرق، على سبيل المثال. لقد أصابتنا هذه الهجمات على حين غرة. وحينذاك، كنا نعلم أن هناك المزيد من المخططات الإرهابية، لكن لم تتوافر لدينا أية معلومات تقريبا عنها. وعليه، كان من الضروري أن نصل إلى هذه المعلومات بسرعة. وبالفعل، اكتشفنا الكثير من المعلومات.

وشدد سلف بلير، مايك مكونيل، على أن: «لدينا أناس يمشون في طرقات هذه البلاد ويتمتعون بالحياة اليوم بفضل هذه العملية». وبطبيعة الحال، يعتمد الجانب الأخلاقي لممارسة التعذيب على مسألة ما إذا كانت المعلومات التي تم الحصول عليها مهمة بدرجة كافية وقت وقوع التعذيب، وما إذا كان الخطر عظيما على نحو كاف، ويعتبر جهلنا بخطط العدو كبيرا بدرجة كافية لتبرير القيام باستثناء للحظر الأخلاقي ضد التعذيب.

وبالاعتماد على نانسي بيلوسي وأعضاء الكونغرس الآخرين الذين تم إخطارهم بحقيقة الموقف في ذلك الوقت، يبدو أن الإجابة نعم. في ديسمبر (كانون الأول) 2007، وبعد نشر «واشنطن بوست» تقريرا أشار إلى أنها كانت على علم بهذه الإجراءات ولم تعترض، اعترفت بيلوسي بأنه: «تم إخطارها بأساليب التحقيقات التي كانت الإدارة تدرس استخدامها في المستقبل».

واليوم، نجد بيلوسي تحتج قائلة: «لم يتم ـ وأكرر ـ لم يتم إخبارنا بأن الإيهام بالغرق أو أي من هذه الأساليب المرتبطة بالتحقيق المتطور جرى استخدامها». ويبدو أنها تتوهم أن هذا التمييز بين الماضي والحاضر يعفيها من المسؤولية. على العكس، إنها تدين نفسها بهذا القول، ذلك أنه إذا أخبرك شخص ما بأن تعذيب وقع بالفعل، ربما تبرر حينها صمتك بأن الأمر وقع بالفعل وأنه يجري استغلالك بعد وقوع الحدث للتغطية على وكالة الاستخبارات المركزية. أما التوقيت الحقيقي للاعتراض، إذا كنت حقا تشعر بقدر الغضب الذي تتظاهر به، فهو عندما تخبرك وكالة الاستخبارات المركزية بشأن ما تنوي فعله «في المستقبل».

لكن بيلوسي لم تقم بشيء، ولم تعترض، ولم تتخذ أية إجراءات لوقف التمويل، ولم تبعث بخطاب إلى رئيس وكالة الاستخبارات المركزية أو أي مسؤول آخر تطالبه بعدم تنفيذ مثل تلك الإجراءات.

بل على العكس، مثلما يوضح بورتر غوس، رئيس اللجنة المعنية بشؤون الاستخبارات داخل مجلس النواب آنذاك، فإن الأعضاء الذين تم إخطارهم بهذه الأساليب لم يمتنعوا فحسب عن الاعتراض، وإنما: «سألوا ما إذا كانت وكالة الاستخبارات المركزية بحاجة لمزيد من الدعم من الكونغرس لتنفيذ مهمتها ضد القاعدة».

وعليكم التركيز مع هذه الجملة، «مزيد من الدعم». وعليه، فإن موجة التنديد القائمة حاليا لا تنطوي على خسة فحسب، وإنما تخلو من أي معنى حقيقي. إن الأمر يختلف تماما بين أن تعترض وقت وقوع هذا الأمر وتعلن ذلك، وأن تظل صامتا حينها، ثم تنهض الآن في صباح أحد الأيام الآمنة من عام 2009 لتندد بمن حافظوا على سلامتنا خلال تلك السنوات الثماني المفزعة.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»