دولة الشيخ حسن نصر الله؟!

TT

حينما كان الرئيس ياسر عرفات على عتبات الرجوع إلى أرض فلسطين لتطبيق اتفاق غزة ـ أريحا لكي تكون أولى الخطوات على طريق إنشاء الدولة الفلسطينية، تساءل الكثيرون عما إذا كان في مقدوره إدارة الدولة، أو أن منظمة التحرير سيكون بمقدرتها التحول من كيان ثوري في المنفى إلى كيان سياسي يدير شعبا ومؤسسات أم أنه سوف يعجز عن القيام بهذه المهمة الجديدة؟. كان التساؤل ساعتها مشروعا لأن تاريخ حركات التحرر الوطني في بلدان العالم الثالث لم يكن كله مشرفا، بل إن ما فيه من فشل كان أكثر من النجاح، فالمقاتلون الأشداء لم يكونوا أبدا أفضل المديرين للمستشفيات، ولا كان المناضلون العظام من أحسن العارفين بإدارة الفنادق. ولكن عرفات أيامها لم يقبل السؤال المشروع، وأكثر من ذلك فقد كانت إجابته أن منظمة التحرير نجحت في إدارة دولة بأكملها هي لبنان لسنوات طويلة؛ فهل تعجز عن إدارة غزة وأريحا، أو أي دولة فلسطينية مهما كان حجمها؟.

في ذلك الوقت كانت إجابة عرفات مخيبة لآمال فريقين: الأول كان الفريق الذي رأي أن الإجابة تشير إلى أن عرفات لا يعلم معنى إدارة الدولة؛ والثاني، وكان من اللبنانيين، شعر بقدر كبير من الإهانة، فلم يكونوا يعرفون أنهم ظلوا واقعين تحت الاستعمار الفلسطيني طوال تلك المدة التي احتضنوا فيها القضية الفلسطينية. وعلي أي الأحوال لم يمض وقت طويل حتى ظهرت الحقيقة وهي أن السيد ياسر عرفات لم يكن يعرف معنى الدولة، ولا إدارتها، ففشل أولا في تحقيق ما تعرفه الدول طوال تاريخها وهو أن تكون هناك سلطة واحدة لها الحق «الشرعي» لاستعمال السلاح حتى ولو كان النضال مستمرا، والمقاومة لا تزال تقوم بواجباتها. وسرعان ما كانت النتيجة هي تعدد الفصائل الفلسطينية المسلحة، وبات هناك فصائل «يسارية» متعددة، وأخرى «إسلامية» متنوعة، حتى انقسمت القوات المسلحة لتنظيم فتح ذاته ما بين أكثر من فصيل صار لكل واحد منها طريقته في التحرير والدفاع عن الأمن الفلسطيني، واتخاذ قرارات الحرب والسلام، حسب ما لكل تنظيم وحركة من قيادات داخلية وخارجية.

وسمح عرفات ثانيا، وقبل أن تقوم الدولة من الأصل، بتعويض المناضلين عن نضالهم طوال سنوات الشتات، وبدأت الخزانة الفلسطينية التي كان يسيطر عليها عرفات تفتح حزب الأهواء والظروف، وتوزع مغانم ما هو متاح من معونات إلى المقربين والأعوان. وهكذا أصبحت مسألة «الفساد الفلسطيني» جزءا من هموم القضية الفلسطينية يجري وراءها الاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، والدول المانحة المتنوعة، وحتى المجلس الأمريكي للعلاقات الخارجية، وكل ذلك بينما كانت القضية الأصلية بلا حل.

وكانت نتيجة هذه السياسة العرفاتية كارثية، فقد أعطت إسرائيل الفرصة للتشهير بنضال الشعب الفلسطيني والتخلص من التزاماتها، ووجد الشعب الفلسطيني نفسه، وقد عادت سلطته الوطنية إلى أرضه، يواجه حربا بصورة دورية بينما تتآكل أراضيه بالاستيطان لصالح الاحتلال. وكأن كل ذلك ليس كافيا فإن حركة حماس المسلحة، والتي كانت تدير السياسة الخارجية الفلسطينية والأمن القومي الفلسطيني من المعارضة، باتت تديره مباشرة وهي في الحكم بعد أن فازت بالأغلبية في الانتخابات التشريعية، وبعد أن فشلت في الإدارة كما فشل عرفات، لم تجد هناك بدا من تحقيق أول انفصال في دولة لم توجد بعد، ففصمت قطاع غزة عن الضفة الغربية وبدأت في ممارسة حكمها وحروبها ومقاومتها الخاصة.

مناسبة هذا الحديث كله هي تلك التصريحات التي أطلقها الشيخ حسن نصر الله يوم 15 مايو الحالي والتي أعلن فيها أن يوم 7 أيار ـ مايو ـ كان يوما «مجيدا» من أيام لبنان، وأن «العقول والنفوس والإرادات التي هزمت أقوى جيش في هذه المنطقة (يقصد حرب صيف عام 2006) يدعمها أقوى جيش في العالم، قادرة على إدارة بلد أكبر مائة مرة من لبنان». ولمن لا يعرف فإن السابع من مايو شهد نزول قوات حزب الله إلى بيروت في أكبر استعراض للقوة، حيث تمت مهاجمة مقار الأحزاب ومحطات تلفزيوناتها وصحفها، وببساطة كان حزب الله يعلن ليس أنه دولة داخل الدولة اللبنانية، وإنما هو الدولة اللبنانية ذاتها. والحقيقة أن الرجل لم يكن كاذبا كثيرا، فبغض النظر عن النصر الذي حققه عندما أعاد الاحتلال الإسرائيلي، ومن بعده الاحتلال الدولي للأرض اللبنانية، واستمرار احتلال مزارع شبعا اللبنانية، إلا أن حزب الله كان بالفعل قد قطع شوطا طويلا في عملية الاستيلاء على لبنان. ومن العجيب أن نقطة البداية في الاستيلاء كانت «المقاومة» عندما قرر الحزب احتكارها بالقضاء على فصائل المقاومة الفلسطينية العاملة من لبنان، ومن بعدها كافة فصائل المقاومة اللبنانية الأخرى، بحيث بات حزب الله هو صاحب الحق الوحيد في المقاومة. ولم يمض وقت طويل حتى أصبح حزب الله القوة المسلحة الوحيدة في لبنان متفوقا في ذلك على الجيش اللبناني ذاته، ومع السلاح جاءت أجهزة المخابرات والصلات الخارجية، ومع كل ذلك كله جاءت الأرض، حيث بات الجنوب اللبناني كله، ومعه ضاحية بيروت الجنوبية، تشكل دولة حزب الله الجديدة في لبنان.

لم يختلف الأمر كثيرا عما جرى في فلسطين، ولكن الفارق أن الفلسطينيين من حماس فعلوها قبل قيام الدولة، أما اللبنانيين من حزب الله فقد فعلوها رغم وجود الدولة التي ما لبثت أن تفككت أجزاؤها قطعة بعد قطعة، حيث بدأت جماعات الحزب تستولي على مؤسسة المطار، والجوازات والجنسية لكي يحصل الحزب على الجوازات والتأشيرات الشرعية التي يريدها في عملياته. وكانت نتيجة كل هذا النفوذ هو أن جماعة الأغلبية في مجلس الوزراء اللبناني طالبت بوضع حدود على تجاوزات حزب الله في المطار، وإقامته لشبكة اتصالات خاصة به، فكانت النتيجة هي احتلال حزب الله لبيروت كلها، وفرض مناخ الحرب الأهلية على لبنان، ولأن أحدا في لبنان لم يكن على استعداد لمحرقة الحرب من جديد فقد تم التنازل ـ بوساطة من قطر ـ لحزب الله عن حق الفيتو على قرارات الأغلبية من خلال ما عرف «بالثلث المعطل» الذي يتيح للحزب الاعتراض على القرارات التي لا يرضى عنها. وفي الوقت الذي كانت فيه كل وزارات العالم تسعى إلى «تفعيل» أعمالها، فقد كان حزب الله هو أول أحزاب العالم التي تسعى إلى التعطيل والشلل حتى أنه لم يعد بقدرة مجلس الوزراء اللبناني اتخاذ قرار واحد ذي أهمية.

وهكذا ولدت دولة حزب الله داخل الدولة اللبنانية، ومع ميلاد الدولة أصبح مطلوبا الاحتفال الوطني اللبناني بيوم مولدها حينما استولت على بيروت، ومن يطالع قناة «المنار» اللبنانية التي يبثها حزب الله يمكنه مشاهدة نوع الاحتفالات التي يرغب فيها حزب الله، حيث يجتمع مئات الألوف من مؤيدي الحزب شاهرين قبضاتهم في وجه كاميرات التلفزيون وفي حركات منظمة لا توجد إلا في الأحزاب الفاشية، حيث يجري الهتاف والتقدير للشيخ حسن نصر الله ومن قبله لآية الله الخميني، وعلي خامنئي مرشد الثورة الإيرانية وقائدها الآن. ومهما تعجبت من وجود صور وأعلام وهتافات لقادة إيرانيين في احتفال لبناني صرف، فإنك في النهاية سوف تعرف أننا إزاء دولة متقدمة لإيران على الأرض اللبنانية. ولن تمضي فترة طويلة حتى تأتي الانتخابات اللبنانية لكي تجري تحت فوهات مدافع حزب الله، وتحت الضغط المباشر لميليشياته العسكرية والسياسية، ومن وراء هذا وذاك تجري عملية الابتزاز باسم المقاومة ومواجهة الحلف الصهيوني الأمريكي على الأرض اللبنانية.

ولكن ذلك قصة كونتها وقائع حدثت خلال السنوات والشهور الماضية، ولكن قدرة حسن نصر الله على إدارة بلد أكبر مائة مرة من لبنان قصة أخرى، لأن قيادة حسن نصر الله ببساطة لا تختلف كثيرا عن قيادة عرفات. فالكوادر المسلوبة الإرادة، والعاملة تحت قواعد السمع والطاعة، والذائبة في حالة من الوجد الصوفي لقائد أو زعيم يصعب عليها أن تقود دولة لتحرير أراضيها، فضلا عن أن تأخذ بيدها إلى بر الأمان، أو إلى شطآن التقدم والازدهار.