برلمان ستراسبورغ لأوربا الدول والشعوب

TT

يقبل الأوربيون المنضوون تحت لواء الاتحاد الأوربي بعد أسبوع على انتخاب مجلس برلمان الاتحاد بمقتضى ما تم إبرامه في معاهدة نيس التي تبين حصص التمثيل التي تنوب كل واحدة من الدول الأعضاء، ولأول مرة بعد معاهدة لشبونة، التي تم بمقتضاها توزيع مواقع النفوذ وضبط آليات القرار، والتي عدلت الدستور الذي كان يتضمن قواعد العمل في مؤسسات الاتحاد، بعد أن تعرض لهزة من جراء تعثر مسلسل المصادقة عليه.

وسيفرز الاقتراع القادم مجلسا تشريعيا يمثل إرادة حوالي 500 مليون أوربي ينتمون إلى 27 دولة. وهو أمر يهمنا للتعرف على سير هذه العملية الاندماجية بما تنطوي عليه من رهانات وتحديات. وتتحدث هذه الكتلة البشرية الكثيفة 23 لغة، ولهذا فإن مؤسسات الاتحاد تشغل 700 مترجم، ولكن هذا التشتت اللغوي لا ينتج عنه أي بلبلة، لأن المفاهيم موحدة عند المتكلمين باللغات العديدة، سواء الرسمية للدول الأعضاء، أو تلك اللغات الإقليمية المتداولة في حظيرة كل دولة على حدة.

ورغم أن كل واحد من النواب يأتي من الانتخابات التي تمت في دولته، فإنهم حينما يلتقون في ستراسبورغ، مقر البرلمان، يتوزعون إلى سبع فرق تتميز بانتماءاتها السياسية وليس تبعا لمشربها الجغرافي، وذلك لحث الأعضاء على التفكير في أفق أرحب. كما أنه مشروط على الفرق أن تضم نوابا من أكثر من ست دول على الأقل.

واختيار ستراسبورغ في حذا ذاتها، لتكون مدينة لمقر البرلمان، ومن قبله مقرا للمجلس الأوربي منذ الخمسينيات، من شأنه أن يحث على استحضار الخلفية التاريخية لفكرة الوحدة، لأن المدينة تقع في منطقة حدودية بين فرنسا وألمانيا، وهي عاصمة إقليم الألزاس الذي طالما حرك الشقاق بين البلدين اللذين يعتبر تصالحهما فاتحة مسيرة الوحدة الأوربية.

وقد سهل طي المراحل نحو المنعطف الحالي الذي وصلت إليه أوربا قيامها على الاختيار الديموقراطي، فقد كان شرط الانضمام إلى اتفاقية روما المؤسسة للمسيرة الوحدوية، هو قبول المسطرة الديموقراطية. وقد ساعد ذلك على تخلي دول جنوب أوربا ثم شرقها عن الأنظمة الديكتاتورية، وكوفئت على ذلك بمساعدتها ماديا وسياسيا على الخروج من أوضاعها المتدهورة.

وبفضل ذلك الشرط، فإن القارة الأوربية هي المجموعة الدولية الأكثر مساهمة في تكثير عدد الدول الآخذة بالأنظمة الديموقراطية. فمنذ الثمانينيات حتى الآن، انخرط عدد من الدول في مسلسل الدمقرطة، ولكنها لم تصمد كلها في المسيرة، إلا ما كان في أوربا. وتبعتها في ذلك دول من أميركا اللاتينية وفي آسيا، ولكن مع تعثر ملحوظ. ولا كلام عن المنطقتين العربية والأفريقية. وفي أوربا أكثر من غيرها، ظهر أن الديموقراطيا تعطي الحلول، بل إنها أيضا تمكن من جبر الأضرار التي تقع في مسيرة الأمم.

وحينما اتجه الاتحاد الأوربي إلى تزويد نفسه بمؤسسات تجعله قادرا على الحياة والاستمرار في طي المراحل نحو النجاعة والمردودية، انهمك مهندسوه على ابتكار طرق للاندماج تكفل مشاركة مختلف مكونات الاتحاد بكيفية مباشرة في التسيير، وتكفل كذلك تغطية برامج الاتحاد لكل الحاجات التي تطرح في ديموقراطيا عصرية ميزتها الأولى هي العقلانية والنجاعة.

وفي غمرة ذلك أصبح البرلمان الأوربي مؤسسة فاعلة تزداد صلاحياتها اتساعا من مرحلة إلى أخرى. ولكي تقوم هذه المؤسسة بدورها كاملا، فقد تم عبر الدرس والتشاور ثم التفاوض بشفافية، الاهتداء إلى قواعد عمل دلت في مجموعها على أن المسيرة الاندماجية التي انخرطت فيها أوربا هو اختيار لا رجعة فيه.

وفي الولاية التشريعية التي تنتهي الآن، (من 2004 إلى 2009) برز البرلمان الأوربي بقرارات ومواقف وصفتها جريدة «إيل باييس» الإسبانية بأنها جعلت اللجنة الأوربية (الجهاز التنفيذي) في وضع غير مريح. وفي الوقت نفسه، فإن تلك القرارات قد أثرت على حياة الأوربيين من حيث التراتيب الجبائية وآليات التنافسية والالتزام بضوابط لا يمكن تجاوزها في حقول شتى، مثل رعاية البيئة والوسائل السمعية البصرية. وتم ذلك من خلال المصادقة على حوالي 400 نص قانوني يسري مفعوله في كل دول الاتحاد. ويوما بعد يوم تتقلص الصلاحيات التي كانت لحكومات الدول، وذلك لتكاثر المجالات التي تطبق فيها قوانين الاتحاد.

ومما يبرز السلطة الفعلية التي للبرلمان الأوربي على حكومة الاتحاد أن النواب استعملوا صلاحياتهم في مراقبة أعضاء اللجنة الأوربية، وقد أدى الثمن كوميسير العدل الإيطالي روكو بوتيليوني الذي رفض تعيينه في المنصب بـ27 صوتا ضد 26 في أول دورة للبرلمان بعد انتخابه في 2004. وكان قد تعبأ ضده نواب سبق أن تواجهوا معه في البرلمان نفسه بشأن الشذوذ الجنسي الذي يعتبره هو ضد الطبيعة ومهددا للأسرة. وقد مارس البرلمان الأوربي بصفة عامة صلاحياته كاملة في مناقشة ومراقبة أعضاء اللجنة الأوربية (الحكومة).

وقد تبرمت حكومات الدول الأوربية من تدخل البرلمان الأوربي في مسائل دقيقة ترهن علاقات الاتحاد مع أطراف دولية مهمة، مثل ما حصل بالنسبة لمسألة عبور الطائرات الأميركية للأجواء الأوربية في الطريق من وإلى غوانتانامو. وكذلك كان الحال حينما أبطل البرلمان الأوربي الاتفاق الذي توصلت إليه حكومات أوربية مع إدارة بوش بشأن تخزين المعطيات المتعلقة بالحاملين لتذاكر الطيران.

وقد تعزز معا دور كل من البرلمان واللجنة الأوربية، بمقتضى تقنية التصويت المزدوج، أي الذي يأخذ في الاعتبار العنصر العددي، ولكن المرتبط بالوزن الديموغرافي. وذلك لكي تكون القرارات والتدابير معبرة عن انشغالات الأغلبية وكذلك لكي يكون مضمونا انتماء تلك الأغلبية لدول ذات وزن ديموغرافي. وبما أن حضور كل دولة عضو في اللجنة الأوربية مطلوب على الأقل بواحد، فهذا يثقل تلك الأداة التنفيذية ويعقد مهمة رئيسها.

وهكذا، فإن التجربة الاندماجية الأوربية تعكس اهتماما في آن واحد بتفعيل دور المؤسسة البرلمانية، أي باعتبار إرادة الناخبين، وكذلك بضمان الفعالية التنفيذية، أي باعتبار ترك هامش مناورة للجهاز التنفيذي.

ولعل هذا هو ما كان يعنيه الرئيس ساركوزي الذي يمارس الحكم في ظل دستور يعطي الجهاز التنفيذي دورا قياديا، حينما قال إن أوربا في حاجة إلى دول قوية أكثر مما هي في حاجة إلى مؤسسات قوية. وقد قال ذلك في آخر مثول له أمام برلمان ستراسبورغ في نهاية السنة الماضية.

وهنا يطرح أن يعطى لرئيس اللجنة الأوربية بوصفه المسير اليومي لشؤون الاتحاد سلطات أوسع، خاصة ـ وهذا ما ذكر به الرئيس الفرنسي ـ أن الاتحاد بعد أن أصبح يضم 27 دولة، يتوقع أن ينتقل إلى 33 دولة.

ولا شك أن المقصود هو إحداث توازن بين ما هو مصالح وما هو مبادئ في السياسات التي يطبقها الاتحاد، وهي سياسات تزداد تفوقا على سياسات الدول الأعضاء الانفرادية. إن حساسية فرق برلمانية بعينها بشأن مسألة حقوق الإنسان مثلا تعرض سياسة اللجنة الأوربية ومن ورائها حكومات الدول الأعضاء، لنوع من الحرج إذا ما تبنى البرلمان مواقف بشأن حقوق الإنسان تستهدف الصين وروسيا. وأحيانا ضد بعض دول العالم الثالث.

لكن البرلمان يتم انتخابه بالاقتراع المباشر. وهذا ينطوي على مغزى خاص من زاوية رؤية ديموقراطية للأشياء. وسيظل مطلوبا في سياق تجربة اندماجية هي الأضخم التي تشهدها الإنسانية في الوقت الراهن، المزج بين مصالح الدول وانشغالات الشعوب.