شاهد عيان

TT

حلت الكاميرا الفضائية والقمر الصناعي محل رجل مسكين بائس كان يسمى «شاهد العيان». أي الرجل الذي يصدف وجوده في مكان وقوع جريمة أو مروره في انفجار شغب. وكانت تبنى على أقوال «شاهد العيان» أحكام وإدانات، ويتحول إلى شاهد قانوني حاسم في المحاكم. وغالبا ما يغير روايته كلما كررها، ناسيا بعض التفاصيل أو مضيفا بعضها، أو ضائعا بين ما نسي وما أضاف.

غيرت الكاميرا الفضائية في نظام القضاء وفي طرق المعالجة. وتدور في مدار الفضاء آلات تصورنا في الشوارع وفي المقاهي وعلى الطرقات وفي الساحات. ولم يعد «شاهد العيان» سوى إنسان بائس لا يستطيع أن يكون إلا في مكان واحد في لحظة واحدة، فيما تجوب كاميرا «غوغل» فوق بيوت لوس أنجليس وحدائق أوتاوا وكباري القاهرة تصور كل ما تقع عليه.

روى لنا رجل أنه كان في الحادية عشرة خلال الحرب العالمية الثانية، يشاهد فرقة من الجيش الفرنسي تعبر قريته في طريقها إلى منطقة تتمركز فيها. وتوقف ضابط الفرقة في ساحة القرية وسأل معاونه: هل نتخذ طريق التل أم طريق الكروم؟

وذهل الراوي. كيف للجيش الفرنسي أن يعرف أسماء وطرقا لا يعرفها حتى أهل القرية أنفسهم؟ ولكن أيضا كيف للجيوش أن تقاتل وأن تنسحب وأن تتقدم إذا لم تكن تعرف تفاصيل المسالك التي سوف تسلكها. واليوم تدل الخرائط الناطقة السائقين على الأزقة والشوارع وتصحح لهم المسار إذا اتخذوا طريقا فرعيا خطأ. ومن الأسهل عليَّ بكثير أن أعثر على طريقي في مدينة نيويورك بدل بيروت التي ولدت فيها. فالعقل الهندسي الغربي يعطيك العنوان «على الشارع 53 والجادة الخامسة». أما في بيروت فلا يزال عنواني البريدي حتى الآن «قرب وزارة الأشغال، نزلة المدرسة الحربية، مقابل مطعم لومولان». وعندما كان نجل الرئيس الهراوي لا يزال ساكنا قصادنا، كان الأسهل أن نقول «قرب منزل جورج بك».

وما زالت الأقمار الصناعية عندنا مجرد أجرام تغني في الفضاء. فعندما قتل الرئيس الحريري، تداول اللبنانيون على الإنترنت صورا قيل إن القمر الصناعي قد التقطها بكل وضوح، وتثبت أن المتفجرات وضعت تحت الأرض. ثم قال التحقيق بل وضعت فوق الأرض. ثم اختفت الصور الفضائية والأرضية، ولم نعد نعرف أين أصبح القمر الصناعي ولا على أي موال يغني.