من ينقذ باكستان من «البلقنة»؟

TT

وقع رؤساء إيران وأفغانستان وباكستان اتفاقا سمي بـ«بيان طهران»، خلال القمة الثلاثية التي جمعتهم في طهران يوم الأحد الماضي، حيث ناقشوا تزايد نفوذ وقوة «طالبان» في أفغانستان وباكستان. كعادته الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، اعتبر أن المشكلة الأساسية هي أميركا «الطارئة على ثقافة أمتنا»، الرئيس الأفغاني حامد كرزاي قال: «إذا استطعنا إنقاذ باكستان وأفغانستان من التطرف، فإن مثل هذه اللقاءات الثلاثية يكون لها معنى»، أما علي آصف زرداري الرئيس الباكستاني فقد رأى: «أن هناك العديد من المشاكل على حدودنا المشتركة، لا يمكن الاستهانة بها ويجب إيجاد حلول لها».

اللقاء الثلاثي جاء بعد لقاءين مماثلين جمعا الرئيس الأفغاني والباكستاني، مرة في أنقرة وأخرى في واشنطن، وكان الرؤساء الثلاثة التقوا قبل ثلاثة أشهر في قمة اقتصادية إقليمية عقدت هي الأخرى في طهران.

«قمة طهران» الثلاثية ناقشت تفاقم مشكلة «طالبان»، والمآسي التي يسببها انتشار المخدرات على شعوب هذه الدول. طبعا، لم تصل القمة في مناقشاتها إلى العمق، رغم ثقة أحمدي نجاد بأنها «ستضمن الأمن والتعاون في المنطقة»، إذ إن لكل دولة، مشاكل أخرى معقدة أبعد من المشكلة التي يسببها «طالبان».

هناك عاملان لافتان في هذه القمة: الأول، أن إيران استضافتها، وذلك بعد طلب الولايات المتحدة الأميركية منها أن تلعب دورا حاسما في محاربة تمرد «طالبان»، وهذا يدفع إيران إلى الشعور بأن أميركا تعترف بها كلاعب إقليمي خصوصا في أفغانستان، لكن لا يبدو أن هذا يرضي «الطموح» الإيراني المدروس والحثيث. إذ على الرغم من دعوة واشنطن لطهرن للمشاركة في اللقاء الدولي الذي عقد في لاهاي (هولندا) في نهاية شهر مارس (آذار) الماضي بحجة مكافحة زراعة وتهريب المخدرات الأفغانية، وعلى الرغم من جهود إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما في فتح قنوات اتصال مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والعروض الكثيرة التي تلوح بها واشنطن، وآخرها استعداد الإدارة السماح لإيران بتخصيب اليورانيوم شرط عدم تصنيع القنبلة النووية، أي حسب النسق الياباني، تستمر التعقيدات أمام تطوير هذه العلاقة من زاوية ترتيب الوضع في أفغانستان. فطهران تريد أن تلغي الولايات المتحدة فكرة التحاور مع المعتدلين من «طالبان»، على أساس أن هذا التوجه يستدعي ولا بد دورا للسعودية التي تعتبرها إيران منافسا لدودا لها في الشرق الأوسط الكبير.

ترغب إيران في تقوية وضعها في المنطقة، قبل أن تلعب دورا إيجابيا في أفغانستان.

العامل الثاني، أن القمة الثلاثية شاركت فيها أهم دولتين جارتين لأفغانستان، أي إيران وباكستان. الدولتان تشتركان بحدود طويلة مع أفغانستان، ولكل منهما نفوذ داخلها. والدولتان كانتا فاعلتين عبر الإثنيات المشتركة لكل منهما في أفغانستان، خصوصا بعدما أطاح المجاهدون الأفغان بالنظام الماركسي في كابول في نهاية السبعينات، وأدى ذلك إلى الغزو السوفياتي.

في استراتيجيتها الجديدة المتعلقة بأفغانستان عادت واشنطن إلى جذور المشكلة. ورأت بالتالي، أنه إذا كان لا بد من تسوية سياسية لـ«طالبان» في أفغانستان، فإنها تتطلب توافقا بين الذين ساهموا إلى حد ما في البداية، في التسبب بها، لكن الاستراتيجية التي تعمل عليها واشنطن لم تخفف الاعتقاد السائد في المنطقة، بأنها وحلفاءها في الحلف الأطلسي لن ينجحوا في مواجهتهم العسكرية لـ«طالبان»، إضافة إلى الشعور بأنه لن يكون هناك التزام غربي طويل الأمد في أفغانستان، وهذا ما دفع الدول الثلاث في القمة الثلاثية، إلى محاولة التحرك لإيجاد حل إقليمي. إذ لا ترغب أي منها في وجود تجمعات لجهاديين في الدول التي تجاورها مباشرة، تهدد أمنها القومي واستقرارها.

قد يكون أقل هامش للمناورة هو أمام كرزاي، الذي تواجه حكومته حاليا الخطر الأكبر من «طالبان»، ويحاول هو جاهدا الوصول إلى تعاون مع الملا عمر زعيم «طالبان» وكذلك مع قلب الدين حكمتيار، كما أن واشنطن تلوح له بورقة زلماي خليل زاد لأن يصبح رئيس الوزراء الإداري لأفغانستان. ذلك أن كرزاي لا يسيطر حتى على كابول، ثم إن بلاده تعتبر الخامسة في العالم بالنسبة إلى الفساد المستشري فيها، وكلما تضاعفت شهية وزراء كرزاي والحكام المحليين للفساد، تقدم «طالبان» في السيطرة على القرى وعلى القبائل، وهم نجحوا في إقامة تحالفات مع مجموعات إجرامية، ويتلقون دعم البشتون في باكستان.

وإذا كان آصف زرداري لا يواجه نفس قوة الخطر الطالباني الذي يواجهه كرزاي، فإن تنامي قوة «طالبان» على طرفي الحدود المشتركة بين البلدين يهدد الأمن الوطني الباكستاني، والذي يعقد الوضع أكثر أن إيران وباكستان تدعم كل منهما «طالبانها» المفضلين في أفغانستان، والدولتان تعانيان من تمرد وتململ البلوش لديهما.

مع الحديث عن مكافحة المخدرات المتدفقة من أفغانستان، ركز المجتمعون الثلاثة على الخطر الذي يشكله «طالبان»، وحاولت باكستان وإيران في ذلك اللقاء اقتناص الفرص. فإيران التي تتطلع إلى تقوية نفوذها في العراق عبر حلفائها الشيعة العراقيين، ترغب أيضا في إظهار قوتها في أفغانستان، حيث الاهتمام الأميركي والسعودي والباكستاني. وتعرف إيران أنها في حاجة إلى الكثير من الأوراق كي تستعملها لاحقا في مفاوضات، قد تصبح علنية، بينها وبين الولايات المتحدة تتعلق تحديدا بالعراق، الذي بنظرها سيكون المنفذ إلى بقية المنطقة، لذلك تمثل أفغانستان ورقة مهمة في يد إيران.

أما بالنسبة إلى باكستان، فعلى الرغم من مشاكلها مع «طالبان»، حيث تحولت القوات العسكرية ضدهم، فإنها تريد أن تحافظ وتحمي حلفاءها من «طالبان» أفغانستان، لتلتف على منافسها اللدود الهند، التي نما نفوذها بشكل ملحوظ في كابول، بعد انهيار نظام «طالبان» هناك عام 2001. التوافق الإيراني ـ الأفغاني ـ الباكستاني الآن في طهران، لم يلغ دورا لفئات من «طالبان» في المعادلة التي تعمل لها كل دولة من الدول الثلاث، وهذا سيبرر للولايات المتحدة لاحقا، العمل على التوصل الى نوع من الترتيبات مع فئة من «طالبان»، حسب الخطة التي اقترحتها السعودية.

إن «طالبان» ليسوا المشكلة الوحيدة التي تواجه إيران وباكستان بالذات، فالدولتان تعانيان من مشكلة كبرى، وهي البلوش. حتى البشتون الذين يشكلون أكبر عدد من «طالبان» يخافون من البلوش. وقد بدأت إيران في تحديث معدات المراقبة على حدود مقاطعتها سيستان ـ بلوشستان، التي تمتد إلى مسافة 12 ألفا و500 كيلومتر طول الحدود مع بلوشستان أفغانستان وباكستان. وأكثر ما تتخوف منه طهران عمليات سرية تقوم بها القوات الأميركية داخل أراضيها، بعد أن تنطلق من بلوشستان باكستان. أما باكستان، فإن أجهزتها الأمنية والعسكرية ستستمر بدعم «طالبان» أفغانستان، وليس بالضرورة «طالبان» الذين ترغب واشنطن في احتوائهم لاحقا، لأن ما يعشش في عقول هذه الأجهزة هو دحر «التحالف الشمالي» في كابول، الموالي للهند، والذي هو القوة الفعلية في كابول، وليس كرزاي إطلاقا، ثم إن التحالف الشمالي مدعوم أيضا من إيران وروسيا.

الولايات المتحدة تبذل جهدا لتوفير مخرج حل في أفغانستان، لأنها قلقة على وضع باكستان، لكن الأخيرة قد تدفع الثمن الأكبر. ويكثر الحديث عن احتمال «بلقنة» باكستان، إذا ما شعر البشتون، على طرفي الحدود الباكستانية ـ الأفغانية، أن هناك فرصة، في ظل تخبط كل الأطراف المتداخلة، لتحقيق حلمهم بإقامة دولتهم «بشتونستان»، إذ إن هناك 26 مليونا في باكستان و13 مليونا في أفغانستان. فإذا حصل هذا، فإن الهند التي يضعها القادة العسكريون والأمنيون الباكستانيون في كل خططهم، قد تتدخل لإخضاع السند والبنجاب وإبقائهما تحت نفوذها، هنا، سيجد البلوش الفرصة لتحقيق أحلامهم، هم يطالبون دائما بحكم ذاتي واسع والتحكم بثرواتهم الطبيعية، ويأتيهم الرد الباكستاني عسكريا.

في حال «بلقنة» باكستان، قد تفضل واشنطن التركيز على استثمار الثروة الطبيعية في بلوشستان «المستقلة». البلوش عرضوا سابقا على إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان منحهم الاستقلال مقابل تحكم واشنطن بخطوط الغاز في المنطقة.

إن قمة طهران، لم تتجاوز معالجتها قشور الأوضاع المعقدة في تلك المنطقة. وإذا كانت بدأت عملية جماعية لمعالجة مشكلة «طالبان»، فإن مشاكل جنوب غربي آسيا، التي أفرزت «طالبان»، لا تزال تتأجج وتحرق كل من يقترب منها، أحرقت بريطانيا سابقا، وتدفع الولايات المتحدة الأميركية للتفكير بخطة تلو الخطة، إنما للخروج بعدما ذاقت نيرانها، وها هي إيران تمد بأصابعها إلى تلك النيران لاعتقادها بأن الطريق إلى العراق ولعب دور إقليمي في الشرق الأوسط يمر عبر أفغانستان، لكن نيران تلك المنطقة، يبدو أنها عصية على الانطفاء وسعيرها لا يرحم طموحات أي بلد.